واشنطن / PNN - في تقريرٍ مشترك غير مسبوق، نشرت الجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات (AAUP) وجمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA) الأسبوع الماضي، دراسةً موسعة تكشف عن استخدامٍ متزايد لتهمة "معاداة السامية" كوسيلةٍ لتقييد النشاط الأكاديمي والطلابي في الجامعات الأميركية، خصوصًا ذلك المتعلق بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين وانتقاد سياسات إسرائيل.
ويُعد هذا التقرير أول دراسة معمقة توثّق كيف تحوّلت تشريعات الحقوق المدنية، التي شُرّعت لحماية ضحايا التمييز العنصري، إلى أداةٍ قانونية تُستخدم لتكميم الخطاب السياسي في الحرم الجامعي، وسط تصاعد التوتر حول الموقف من الحرب على غزة والنشاط الطلابي الداعم للفلسطينيين.
ويرصد التقرير تصاعدًا حادًا في عدد التحقيقات الحكومية المرتبطة بادعاءات "معاداة السامية" منذ السابع من تشرين الأول 2023.
فقد فُتحت خمسةٌ وعشرون تحقيقًا خلال الشهرين التاليين فقط، أي أكثر مما أُجري في جميع السنوات السابقة مجتمعة.
وفي عام 2024، بلغ العدد تسعةً وثلاثين تحقيقًا، فيما وصل في عام 2025 إلى ثمانيةٍ وثلاثين حتى خريف العام، مع توقعات بتجاوز الرقم القياسي قبل نهايته.
وتقول فينا دوبال، المستشارة العامة للجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات، إن هذه الأرقام تمثّل "استخدامًا ساخرًا لقانون الحقوق المدنية لعام 1964 لقمع الخطاب المدافع عن حقوق الفلسطينيين"، معتبرة أن ما يحدث "انحراف خطير عن جوهر القانون الذي أُقرّ أصلاً لحماية المساواة وحرية التعبير".
ويُظهر التقرير أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن لم تختلف جذريًا عن إدارة خلفه دونالد ترمب في هذا الملف.
فبين أواخر عام 2023 ونهاية عام 2024، فتحت الإدارة خمسةً وستين تحقيقًا تتعلق بادعاءات معاداة السامية، مقابل ثمانيةٍ وثلاثين فقط في قضايا التحرش العنصري.
وقد دفعت هذه التحقيقات أكثر من عشرين جامعة إلى تعديل سياساتها الداخلية أو تبنّي إجراءات جديدة تحدّ من النشاط السياسي المرتبط بالقضية الفلسطينية.
ويرى معدّو التقرير أن هذه التحولات تمثل "تسييسًا مقلقًا لمفهوم الحماية القانونية"، إذ أصبحت المؤسسات الأكاديمية أكثر ميلًا إلى فرض رقابة ذاتية خشية الملاحقة أو التشهير.
كما يشير التقرير إلى استمرار تأثير فريق عمل ترمب لمكافحة معاداة السامية، رغم تقليص ميزانية وزارة التعليم، حيث تولّت وزارة العدل دورًا أكثر مباشرة في هذه القضايا.
ففي صيف 2025، أصدرت الوزارة نتائج تحقيقات أدانت جامعات كبرى مثل جورج واشنطن وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، كما أعلنت عن فتح ملفات جديدة تشمل نظام جامعة كاليفورنيا وجامعة كولومبيا وجامعة ولاية كاليفورنيا.
وتبيّن الدراسة أن الغالبية العظمى من الشكاوى المقدّمة – وعددها 102 شكوى – ترتبط بإسرائيل ارتباطًا مباشرًا، إذ لم تتضمن سوى شكوى واحدة لا تشير إلى انتقادات موجهة للحكومة الإسرائيلية.
كما تكشف أن مصدر هذه الشكاوى مجموعة محدودة من المنظمات والشخصيات المؤيدة لإسرائيل، أبرزهم زاكاري مارشال، رئيس تحرير موقع Campus Reform الجامعي، الذي قدّم بمفرده 33 شكوى تسببت في فتح 16 تحقيقًا رسميًا.
وفي سياقٍ سياسي موازٍ، ذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الإسرائيلية، أن أوساط الأعمال الإسرائيلية في نيويورك تشعر بقلقٍ متزايد إثر فوز السياسي زهران ممداني بمنصب عمدة المدينة.
ويُعرف ممداني بمواقفه الداعمة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، وبخطابه الصريح في انتقاد السياسات الإسرائيلية.
وفي مقابلة مع قناة MSNBC، قال ممداني: "إن انتقاد إسرائيل هو انتقاد لحكومة، وليس لشعب أو دين"، مؤكدًا أنه سيمثل جميع سكان نيويورك دون تمييز.
غير أن هذه التصريحات أثارت استياء بعض رجال الأعمال الإسرائيليين الذين عبّروا عن خشيتهم من أن تؤدي مواقفه إلى توتر في بيئة التعاون الاقتصادي بين المدينة والشركات الإسرائيلية.
إن هذا التوازي بين تصاعد التحقيقات الأكاديمية وصعود شخصيات سياسية تتبنى خطابًا نقديًا تجاه إسرائيل يعكس تحوّلًا أعمق في المزاج الأميركي العام، حيث باتت مساحات النقاش حول فلسطين وإسرائيل أكثر حساسية وتقييدًا.
وبينما تبرر الإدارات الأميركية المتعاقبة هذه السياسات بدعوى حماية الأقليات ومنع خطاب الكراهية، يرى كثيرون أن الاتهامات المتزايدة بمعاداة السامية أصبحت تُستخدم لتقييد حرية التعبير، لا لحماية التنوع.
وهكذا تُطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل النقاش الحر في الجامعات الأميركية: هل بات الدفاع عن الفلسطينيين جريمة مغلّفة بلغة القانون؟ أم أن البلاد تشهد إعادة تعريف لمفهوم الحرية ذاته في ظل اصطفاف سياسي متزايد مع إسرائيل؟
وتكشف هذه التطورات أن معركة حرية التعبير في أميركا لم تعد تدور حول حدود الكلمة فحسب، بل حول هوية الخطاب المسموح به سياسيًا وأخلاقيًا.
إن تحويل قانون الحقوق المدنية إلى أداة لملاحقة المواقف السياسية يهدد أسس التعددية الفكرية في الجامعات، ويجعل من التضامن مع فلسطين اختبارًا لشجاعة الأكاديميين والطلبة.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد نشهد جيلًا أكاديميًا يتحدث بحذرٍ أكثر مما يفكر بحرية، في مفارقةٍ تُعيد تعريف معنى الحرية وحرية التعبير في الديمقراطية الأميركية.