الشريط الاخباري

مي سلامة: حين يتحوّل الخيط إلى ذاكرة، والهوية إلى تصميم شاهد واقرا القصة

نشر بتاريخ: 15-11-2025 | أقتصاد , منوعات , ثقافة وفنون , PNN مختارات , فلسطينيون في المهجر
News Main Image

رام الله / PNN/ وصال أبو عليا - شكلت قصة نجاح مصممة الازياء التراثية مي سلامة قصة الهام ونجاح للمراة الفلسطينية التي كانت وما زالت تسعى لحماية وطنها باشكال متعددة ومنها الحفاظ على التراث ونقله الى العالمية حيث تعتبر سلامة اليوم نموذج لنجاح واصرار المراة في العمل والابداع من اجل تحقيق غايات عديدة منها ما هو وطني ومنها ما هو ثقافي ابداعي.

البدايات: طفلة تحمل قرية مهجّرة في قلبها

وُلدت مي سلامة في مدينة البيرة، لكن قلبها ظل معلّقاً ب"يالو"، القرية التي هجّرت منها عائلتها عام 1967. نشأت في بيت يعرف قيمة الذاكرة، وتعلّمت مبكراً أن الهوية ليست مجرد سردية وطنية، بل تفاصيل صغيرة نرتّب بها حياتنا اليومية.

ورغم أن دراستها الأكاديمية كانت في علم النفس بجامعة بيرزيت، فإن شغفها الحقيقي كان يتسلّل من بين أصابعها منذ الطفولة: تصميم الأزياء.

تؤكد مي أنه لم يكن ممكنا ترك الشغف، حتى حين اختارت درباً جامعياً مختلفاً، بقيت الفكرة تخفق في داخلها، واضحة وملحّة… كأنها قدر ينتظر اللحظة المناسبة.

وتوضح مي دائماً أن الهوية ليست فكرة نحملها، بل شيء يختارنا، وهذا ما حدث حين توقّف الزمن عند ثوب أمها، ليبدأ مسار جديد كلّه ضوء.

نقطة التحوّل: ثوب الأم الذي فتح الأبواب

في عام 2008، وقعت اللحظة التي غيّرت مجرى حياتها، وجدت ثوباً قديماً طرزته والدتها بيديها، لم يكن مجرد قطعة قماش، بل ذاكرة قرية مهدّمة وحكايات نساء ينسجن الوطن غرزة بغرزة.

قررت مي سلامة أن تعيد تصميمه، أن تمنحه حياة ثانية، دمجت فيه ألوان العلم الفلسطيني بشكل حديث، استبدلت بعض الأقمشة بمواد جديدة، وأعادت بناء روحه من البداية، وحين ارتدته، لم يكن الناس معجبين بجميل التفاصيل فحسب؛ كانوا يرون هوية تقدَّم بطريقة لم يروها من قبل، وكانت تلك الإشارات الأولى التي قالت لها: "استمري… هذا لم يعد مجرّد شغف، بل مسؤولية".

منذ ذلك اليوم، لم تعد مي تصمّم فساتين فقط، بل تعيد صياغة علاقة جيل كامل بتراثه، بدأت بتعليم نفسها، بالتجريب، والتطريز، وتفكيك الثوب التقليدي وإعادة تركيبه، ومن ثم اكتشاف الغرز، ودراسة القصب والتحريرة والغرزة الفلاحية، وكل ما يجعل الزي الفلسطيني مختلفاً عن أي زي آخر. وشيئاً فشيئاً، بدأت هويتها الفنية تتشكل: حداثة لا تتصادم مع الأصل… وأصالة لا تُحبس في الماضي.

من مشغل صغير إلى “مي كوتور”: صناعة حلم في بلد محاصر

تضيف مي أن خطواتها بدأت تنمو بسرعة، من صنع قطع لصديقاتها ومعارفها، إلى أن افتتحت مشغلاً صغيراً تعمل فيه سيدة واحدة، وبعد ذلك ازداد الإقبال، وبدأ اسمها ينتشر، ليس بسبب الجمال البصري فحسب، بل لأن الناس شعروا أن ما تفعله مي جزء من مقاومة ثقافية ناعمة.

كبر المشروع… صارت السيدة الواحدة خمساً، ثم عشرة، ثم فريقاً كاملاً من النساء اللواتي يعِلن أسرهنّ في ظل أوضاع اقتصادية مرهقة، وهنا تشير مي أنها تعلّمت أن التصميم وحده لا يكفي، فأصبحت مدرّبة، ومشغّلة، ومرشدة لطالبات من معظم الجامعات الفلسطينية، وفي سنوات قليلة، تحوّل الاسم إلى علامة تجارية واضحة:

“مي كوتور” علامة تستند إلى فكرة بسيطة: تعني أن التراث ليس قطعة جامدة، بل مادة حية يمكن تحويلها إلى موضة، دون أن تفقد معناها.

وهنا تؤكد مي أن الطريق لم يكن سهلاً، فقد واجهت نقص المواد الخام، وحصار الاحتلال، وإغلاق المعابر، وندرة الأيدي العاملة المتخصصة، رغم ذلك، كانت تصرّ أن تحوّل كل تحد إلى فرصة.

مشاركات وانجازات دولية 

وحين دخلت التكنولوجيا إلى مجال الموضة—البترونات الرقمية، والرسم على الكمبيوتر، والتسويق على المنصات—كانت مي سلامة من أوائل المصممات اللواتي استثمرن فيها لتعزيز حضور الزي التراثي في العالم، وتوضح أن هذا الجهد حملها إلى منصات دولية، تمثلت بإطلالات إعلاميات، ملكات جمال، مشاركات في عواصم عالمية، وتصميم ثوب ارتدته السباحة الفلسطينية فاليري ترزي في أولمبياد فرنسا، وهو ثوب “طائر الفينيق” الذي ارتدته أيضا في السعودية، كرمز للنهوض من النار؛ كما تنهض فلسطين.

وتفخر مي باختيارها في عامي 2019 و2020، من وزارة الاقتصاد كإحدى أبرز الشخصيات في إحياء خط الأزياء الفلسطينية، في إنجاز يثبت أن العمل الفردي قادر على صناعة أثر وطني.

الرؤية: عشر سنوات إلى الأمام… وجيل يحمل الخيط والذاكرة

حين سُئلت مي: أين ترين نفسك بعد عشر سنوات؟ تجيب بثقة المرأة التي تعرف طريقها جيداً: "أرى نفسي أكثر حضوراً عالمياً، وأرى الزي الفلسطيني في كل مكان".

مي سلامة لا ترى المستقبل مجرد توسّع تجاري، بل مشروعاً تربوياً وثقافياً واقتصادياً، تريد جيلاً يعرف التطريز، يفهم هويته، ويستثمر مهارته ليصبح جزءاً من سوق عالمي دون أن يفقد أصله، كما تؤمن بأن الحفاظ على التراث ليس حنين للماضي، بل بناء اقتصاد صغير لنساء يربطن الإبرة بالكرامة.

وعن رسالتها للمرأة الفلسطينية، تقول مي سلامة: "لا تتراجعي أبداً… لا تتركي حلمك مهما كانت الظروف"، وتضيف سنستمر لأن الحياة تستحق، ولأن الهوية تُحفظ بالفعل قبل القول.

وفي كل تصميم تقدّمه—من ثوب الأم إلى طائر الفينيق—تقول مي شيئاً واحداً: نحن شعبٌ يُخلق من جديد… مثل الفينيق، حيث صممت ثوبا جديدا يعتبر أحدث أعمالها مستوحى من طائر الفينيق الكنعاني، رمز التجدد والنهوض من النار، وقد ارتدته السباحة الفلسطينية ترزي، ليظهر مرة أخرى أن التراث قادر دائماً على أن يولد من جديد… كما تفعل فلسطين.

امراة تصر على انقاذ الذاكرة والنجاح لمستقبل أفضل للاجيال

في النهاية، تبدو رحلة مي سلامة أكثر من قصة مصممة أزياء؛ إنها حكاية امرأة تصرّ على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة بلد محاصر، وتعيد خياطته على شكل جمال نرتديه ونحافظ عليه، وبين غرزة وأخرى، صنعت مي مساحة للتراث كي يتنفس، وفتحت للأجيال القادمة طريقاً يرون فيه فلسطين كما يجب أن تُرى: حيّة، نابضة، وقادرة على التجدد مهما اشتدّ الرماد. هكذا، تواصل مي سلامة مسيرتها—بشغف دائماً—لتحفظ هوية وطن كامل بإبرة واحدة، وتمنح الحلم ثوباً يصل إلى العالم.

تم اعداد وإنتاج هذه القصة بتنفيذ شبكة فلسطين الاخبارية PNN ضمن مشروع خطوات من خلال شركة ميديا بلس بتمويل من الاتحاد الأوروبي

شارك هذا الخبر!