الشريط الاخباري

معهما: نجاة وفيصل الحسيني

نشر بتاريخ: 22-08-2015 | أفكار
News Main Image
بقلم/ تحسين يقين في غيابها تأبى إلا أن تُحضر القدس والوطن، فيلتقي الذاتي والعام، يصيران معا، وتصير السيدة نجاة الحسيني جزءا من الوطن، تعيدنا إل محطات زمنية سبقتها، رافعتنا إلى زمن بهاء آت على طريقة إحياء الشعراء الأمل في النفوس. السيرة شخصية، بل وعادية جدا، في نطاقها الاجتماعي المقدسي، لكنها أيضا سيرة وطن، سيرتنا، وسيرة المدينة الجميلة التي نحب. وحين يلتقي الشخصي جدا بالوطني جدا، يصبح الوطن عائلة متضامنة، وتصير الأسرة وطنا. هكذا كنا نشعر مع رفيق دربها فيصل، الذي كان يطل معه تاريخ المدينة العريق، وتاريخ أسرة نبيلة. ننقل البصر في الحضور، فيمرّ شريط من التاريخ والذكريات، والروايات الشفوية على مدار قرن، يزيد قليلا أو ينقص، لتكتمل التراجيديا ولكن في ثوب من البقاء والخلود. ولكنه بالطبع حزن رغم عمقه هو حزن نبيل، فكيف يكون الحزن النبيل؟ تفتح عيناها على الدنيا، على نور القدس البهي، ومع أولى الكلمات يصير الذاتي عاما وطنيا؛ يصير العم أو الخال عبد القادر الحسيني، عم الجميع خالهم وقائدهم وأميرهم وشهيدهم، ويصير الجد موسى كاظم أبا للفلسطينيين وليس للمقدسيين فحسب، ثم لتشهد حين يصير زوجها فيصل الحسيني ابنا للقدس العربية، وأخا بارا للمقدسيين والفلسطينيين في الأرض المحتلة. من القدس إلى يافا، يمضي الجد شهيدا إثر إصابته شيخا جليلا في مظاهرات فلسطين ضد الاحتلال البريطاني، وما أن يشتد ساعد الشاب المثقف عبد القادر حتى يصبح قائدا عسكريا ثم ليمضي إلى أبيه شهيدا بعد، من أجمل شهداء العروبة، ثم ليكبر فيصل ويقود المسيرة ليرحل في معركة صعبة شهيد الواجب القومي لدعم القدس وفلسطين. في عيون عبد القادر الحسيني الحفيد، وفدوى الحسيني الحفيدة تراءى لنا النبل كما لم نعد نراه، وهما كالتوأمين، صارا فراشتين يطيران بمحبة وأناقة النبلاء، كأنهما من يعزي لا من يتلقى العزاء، يطمئنان على الأهل والأصدقاء، فتشعر بأنهما الوطن ومعهم هذه الأسرة الطيبة. الحفيدان، والأب فيصل، والجد عبد القادر الذي بقي شابا في القسطل، متذكرا وصايا الأب باعث الحركة الوطنية في بواكير حياتنا السياسية، التي ما حانت فرصة الاستقلال ، حتى التف الحبل الكولينيالي على رقبتها. جيل وراء جيل، قدر القدس وفلسطين، واختيار أهل المدينة طريقهم. أدقق في الوجوه الحزينة على رحيل السيدة نجاة الحسيني، أرملة المرحوم فيصل الحسيني، فأقرأ ما استطيع من مشاعر وأفكار، وأقرأ الأدب والذوق الرفيع، في الحديث والحركة، فأرى النبل بشرا لا كلاما، النبل الجميل الذي صرنا نفتقده كل يوم،في ظل تسارع التحولات ليس هنا فقط بل في العالم أيضا، والتي يسطو جهل أصحابها ومكرهم بالإنسانية والقومية والوطنية، ليسود بعدهم الخراب والموت. هل احمرت عيون فدوى وعبد القادر حزنا؟ ربما، لكن الوجه مضيء بمحبة وحنان راهبات القدس، كما ينبغي لإنسانة وفية لبلدها والناس، وهي التي رضيت باختيار أن تقاسمهم فيصل، بقسمة ليست في صالحها إلا أيام الإقامة الجبرية التي كان الاحتلال الإسرائيلي يقررها على زوجها. أبناء جيلنا من قرى القدس والمدينة كانوا دوما يحدثوننا عن بيت فيصل ونجاة، والطفلين عبد القادر وفدوى. كنت أقرأ في روايات الرفاق والأصدقاء رفاق وتلاميذ فيصل الحسيني في الحركة الوطنية شيئا جميلا تشوقت له، كنت أرى البيت المسالم والهادئ والكريم، بل كنت أرى فيه بيت الشعب، وهو يستحق ذلك، لأن الهمّ الأول الذي كان يسود في فضائه هو الهم الوطني العام، وليس الهم الفردي. كوتنا يحدثوننا عن لغة الاحترام واللطف والشجاعة التي تحلى بها فيصل الحسيني، والذي كان يمطرنا تهذيبا وأدبا، وكيف أن السيدة نجاة الحسيني كانت سليلة أسرة عريقة، فوقفت إلى جانب فيصل الحبيب والزوج والقائد الوطني، تماما كما وقفت السيدة وجيهة الحسيني بجانب الشهيد الراحل عبد القادر الحسيني الجد. وكنت كطفل وشاب أربط هذا الحديث بالروايات الشفوية التي سمعناها من رفاق عبد القادر الحسيني، عن تهذيبه واندماجه بالفلسطينيين، خصوصا من قرى القدس. حدثونا عن تواضعه ومحبته للناس، وثقته فيهم، وكيف كان يبدل ثيابه ليتردي الثياب العسكرية في بيوتهم، وكيف ينتمي لهم، وحدثونا عن تشجيعه الدائم للمقاتلين، فأحببناه ونحن الذي ولدنا بعد عقدين على النكبة، ورحيله التراجيدي الذي خلدته الكتب والأشعار ومشاعر البشر، والذي تخلدت سخريته من المتقاعسين، حيث كان يدرك أن الاهتمام بالنضال الشعبي والمقاومة الشعبية هو مفتاح النصر، متذكرا مقاومة العكيين لنابليون، وكيف كان للمقاومة الشعبية أثر في رده عن عكا. في كل ذلك كان فيصل الحسيني حاضرا، هو وزوجته وأسرته الصغيرة، ليختار طريقا تلائم العصر، مؤمنا بقيمة البقاء الإستراتيجية، والتي طبقها على نفسه حين أصرّ على الهوية المقدسية. لقد اختار الطريقة الأكثر تأثيرا في هذا الزمن، طريق المقاومة الشعبية، فكانت الانتفاضة الأولى طريقه، وطريق المؤمنين بهذا الأسلوب، الذي ضرب عميقا في وعي العالم. وفي كل مظاهرة ومسيرة، كان فيصل الحسيني إما يتم اعتقاله أو يعود إلى نجاة باسما، ولم يخذلها إلا في رحلته الأخيرة. فهل كان من الممكن أن يمضي بنا فيصل وسط هذا النضال الصعب مع احتلال شرس قاس دون أن يكون متسلحا بالطاقة الإيجابية القادمة من شريكته في الحياة والكفاح نجاة الحسيني؟ دور وطني مقدس هو ما قامت به السيدة نجاة، والتي برحيلها اليوم تعيدنا إلى المشهد الفلسطيني في الزمن الجميل، حين كان للنضال ضريبة كبرى، فسار الشعب المقدسي ومن استطاع الوصول من الوطن في مشوار رحلتها الأخير، ساروا كأنما يودعون جزءا غاليا من الذكريات. معه:إلى جانبه ظلت وفية رحيلها، ومعها ظل حتى رح. كانا معا، متساويان ومناضلان، هو القدر جمعهما على فتزينا بالقدس. ما معنى النبل؟ ما معنى النبل إن لم يكن له استحقاق على الأرض بالتحام الأسرة العريقة بهموم الشعب، فتشعر بأن الأسرة لا تعيش لنفسها، بل للمجموع، فتقدم ما تستطيع، من حب ومال وطعام وشراب. لم تكن "أم العبد" بعيدة عن رفيقها فيصل وهو يبعث من يشتري ما تبقى من خضار وفاكهة من البائعات في القدس، في رمضان، حتى يجدن الوقت الكافي كي يعدن إلى أسرهن، ليوزع الخضار والفاكهة على فقراء المدينة الذي تيتموا بعد فيصل! في هذا البيت المناضل الحقيقي، لم تشأ السيدة نجاة أن تبعد طفلها عبد القادر وطفلتها فدوى عن الأجواء الوطنية في البيت، ورضيت بالقدر الوطني، ليستمر النضال جيلا وراء جيل، وليس سهلا هو النضال، إلا لمن اختار نضال الكلام. سيكبر الطفلان، يصيران فتى وفتاة، يعيشان مع الناس هنا في القدس وبيرزيت، ويلتحمان مع الوطن والقضية، فيخارا طريق التعليم والثقافة، وهناك أيضا كانت نجاة الحسيني تشجع وترعى أما وأبا في غياب فيصل. سيدة عظيمة هي نجاة الحسيني، لا بما توارثت من مجد بل بما صنعت يداها وقلبها وفكرها. أما نحن، فنشعر بأن لنا نصيبا في هذه العائلة العريقة، نشعر بالقرب والقرابة، هكذا يصيرون وطنا ويصيرون أهلا. وتصير القدس بيتا!

شارك هذا الخبر!