الشريط الاخباري

صرخة في كل حوار: أمي لا تموتي قبلي بقلم: عبد الناصر عوني فروانة

نشر بتاريخ: 08-01-2023 | PNN كُتّاب , أفكار
News Main Image

بقلم: عبد الناصر عوني فروانة

 

أمي: لا تموتي قبلي. وان جاءك ملك الموت (عزرائيل)؛ أبلغيه أن لي ابناً معتقلاً في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ الرابع من كانون الثاني/يناير 1993،  وأحلم باحتضانه حراً تحت أشعة الشمس؛ فانتظر قليلاً أو كثيراً حتى يفرّج الله كربه، وبعدها خذني حيثما تريد لي أن أذهب. كانت هذه الكلمات جزء من رسالة سابقة بعث بها الأسير ناصر أبو سرور لوالدته، ويردد مضمونها على مسامعها في كل حوار.

وحين سألتها اليوم عن ذلك، ضحكت كثيراً وقالت لي: وهل لملك الموت أن يستأذن قبل الدخول؟ فالأعمار بيد الله سبحانه وتعالي. وأضافت وهي تضحك: لكن إن طلب رأيي، سأبلغه وصية "ناصر" وسأطلب منه أن ينتظر ولو ليوم واحد بعد خروجه من السجن.

وكنت قد تحدثت مع الحاجة "مزيونة" وكنيتها "أم العبد" من قبل أكثر من مرة، وصباح اليوم (السبت) اتصلت بها مجدداً لكي أطمئن عليها، ولأطمئن من خلالها على أخونا "ناصر" الذي دخل عامه الـ31 على التوالي في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ودار بيني وبينها حواراً طويلاً، ممتعاً وممزوجاً بكثير من الوجع، وروت على مسامعي قصص كثيرة، فقالت: أنني أصبت بجلطة قبل سنوات، وعلى إثرها فقدت جزءاً كبيراً من بصري، ولم أعد أرى الأشياء جيداً، وأخفيت هذا على "ناصر" لأربع سنوات، وذات مرة ذهبت مع أخته لزيارته، فجاءنا بلحية، فقالت له أخته: اللحية مش حلوة عليك، فسألني: فأجبته: حلوة وبتجنن عليك يما، وأنا لم أراها أو ألاحظها. فعاد وكرر السؤال: أمانة يما حلوة، فسكت، ومن ثم ضحكت وقمت لأسلم على باقي الأسرى هربا من إصراره حتى لا أُظهر له ضعف بصري وعدم مقدرتي على رؤية الأشياء بوضوح.

وتابعت الحاجة "مزيونة" حديثها: كبرت وبلغت الثمانين عاماً وشاب رأسي، وهرمت وأنا أقلب صور ناصر، وأثقلتني هموم الحياة ووجع الأمراض والانتظار، وأخشى الموت والرحيل الأبدي قبل أن يُفرج عن حبيبي "ناصر" وقبل أن أتمكن من احتضانه، فكثير من أمهات الأسرى رحلن وهن ينتظرن عودة أبنائهن القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وحين أردت أن أشد أزرها بالقول: السجن لا يُبنى على أحد يا حاجة "أم العبد". فردت بكلمات مؤلمة ممزوجة بالأمل: قطار العمر يمضي يا بُني، وحكم المؤبد لا يزال مفتوحاً والأعمار تُقضى خلف القضبان وقد مضى على اعتقال "ناصر" ثلاثة عقود بالتمام والكمال، وما زلت أنا وأخوته وأخواته ومحبيه ننتظر عودته، متسلحين بالأمل.

وحين سألتها عن شعورها بخروج "كريم يونس"، أجابت: كل الأسرى أولادي وقد فرحت كثيراً بخروجه وذهبت إلى بلدة عارة في الداخل المُحتل حيث يقيم "كريم" هناك، وتحملت مشاق السفر لأصافحه وأضمه إلى حضني وأقدم له التهاني والتبريكات، وضحكنا معاً ورقصنا سوياً وغنينا ورددنا أناشيد الحرية.

ولمن لا يعرف نجلها، فهو الأسير البطل "ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور، المولود في 16تشرين الثاني 1969،  وهو من عائلة مكونة من خمس شقيقات وثلاثة أشقاء، وتسكن مخيم عايدة شمال بيت لحم، ومعتقل منذ 4يناير عام 1993 ويقضي حكماً بالسجن المؤبد (مدى الحياة) بتهمة الانتماء لحركة "فتح" ومقاومة الاحتلال وقتل ضابط إسرائيلي، وخلال سنوات اعتقاله فقد والده، وتمكن من استكمال دراسته داخل الأسر، حيث حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية، ويقبع اليوم في سجن "هداريم"، ومؤخراً صدر له رواية جديدة "حكاية جدار" التي تجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق التاريخي.

و"ناصر" واحد من قدامى الأسرى المعتقلين منذ ما قبل اتفاقية "أوسلو"؛ الذين كان من المفترض إطلاق سراحهم ضمن "الدفعة الرابعة" أواخر آذار/مارس من العام 2014. حيث ومع استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية أواخر تموز/ يوليو عام 2013. كان الطرفان المتفاوضان قد اتفقا, برعاية أمريكية, على إطلاق سراح كافة المعتقلين قبل "أوسلو" على أربع دفعات، خلال تسعة شهور, وفيما التزمت إسرائيل بإطلاق سراح الدفعات الثلاثة الأولى. إلا أنها تنصلت من الاتفاق ورفضت إطلاق سراح الدفعة الرابعة، مما دفع الطرف الفلسطيني إلى وقف المفاوضات. وقد أفرج عن بعضهم بعد قضاء مدة محكومياتهم، فيما لايزال أربعة وعشرين أسيراً يقبعون في سجون الاحتلال منذ ما قبل "أوسلو" أقدمهم الأسير "ماهر يونس" المعتقل منذ 18يناير 1983.

في الختام، لكل أم أسير، حكاية مع السجن، طالت مدة اعتقال نجلها أم قصرت، وإن تحدثت لتروي لنا حكايتها؛ أوجعتنا بكلماتها، وكلما استمعنا لأحاديث أمهات الأسرى وهن يروين معاناتهن، اضطررنا لأن نعود للوراء لنستحضر معاناة أمهاتنا، فنزداد وجعاً. وإن سألوك عن ذاك الوجع. قل لهم: فداءً للوطن ونحن لن نخون الألم والوجع.

شارك هذا الخبر!