القدس/PNN- أمجد كنعان الطويل- تبدأ حكايتنا عام 1856، عندما اشترت دولة بروسيا التي كانت قائمة آنذاك مبنىً تاريخيًا ضخمًا يقع في عقبة التكية شرقي سوق خان الزيت، في الحي الإسلامي في البلدة القديمة في القدس، ليكون بمثابة القنصلية البروسية ومقر إقامة
القنصل، ومنذ ذلك الحين فقد اتخذ المبنى اسم "دار القنصل"، كناية عن بيت القنصل [البروسي]، وهو الاسم الذي حفظته الذاكرة الشفوية حتى اليوم. هذا وقد استخدم جزء من الطوابق العليا للمبنى كمقر إقامة للقنصل، في حين تم استخدام بقية المبنى كمركز للأنشطة السياسية والثقافية البروسية، والتي كانت على مدار نحو ثلاثة عقود من بين أبرز الفعاليات في فضاء التفاعل الاجتماعي في البلدة القديمة، قبل أن ينتقل المبنى في عام 1882 إلى يد البطريركية اللاتينية في القدس. وتقول الفرضية التي وضعها علماء الآثار المحليون بأن مجمع دار القنصل ربما يكون قد بني على أسس تعود لمبان رومانية وبيزنطية موجودة في الجزء الشرقي مما يدعى بالـ "كاردو ماكسيموس" (الشارع الرئيسي في المدن المبنية على الطراز الروماني)، والذي يمثل المحور الأساسي للمدينة التي بناها الإمبراطور هادريان بين عامي 132 و135 ميلادي.
وفي عام 2014، بدأ الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم لعملية إعادة تأهيل مجمع دار القنصل، والذي يتبع الآن لحراسة الأراضي المقدسة. وذلك من خلال برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، في رحلة بدأت قبل ثماني سنوات واشتملت على ثلاث مراحل متواصلة من أعمال الترميم وإعادة التأهيل للمجمع في البلدة القديمة بتكلفة 4.23 مليون يورو، حيث تركزت المرحلة الأولى على الطابق الأرضي الذي كانت مساحته عند بدء العمل لا تتجاوز 750 متر مربع. وكان يغصّ بأطنان من الأنقاض والمخلفات - والتي كانت تشكل الكثير من المخاطر المختلفة - كما تنتشر في أنحائه العديد من العوارض والأعمدة الهيكلية العشوائية وغير المستقرة، والتي من المفترض أنه قد تم وضعها لحماية القاطنين في المنازل المجاورة لمجمع دار القنصل. وبعد القيام بأعمال الترميم والتدعيم الإنشائية اللازمة، وإزالة الأنقاض التي كشفت عن عدد من الغرف والممرات وصلت المساحة الأرضية إلى 1,200 متر مربع. وبالتزامن مع ذلك، تمت إعادة تأهيل 23 وحدة سكنية وثلاثة أفنية مجتمعية في الطوابق العليا وتجديدها بالكامل.
وفي المرحلة الثانية من المشروع، تمت إعادة تأهيل 13 وحدة سكنية، مما سمح لمزيد من العائلات بالتنعّم بمرافق عصرية داخل المباني القديمة التي يعيشون فيها. ولابد من الإشارة إلى أن معظم الشقق في المجمع كانت تعاني من الرطوبة والمخاطر الناجمة عن بلاط الأرضيات المتكسرة والتركيبات الكهربائية والميكانيكية القديمة والهياكل الخشبية المهترئة وأنابيب السباكة التي تحتاج للترميم، كما شملت عملية إعادة تأهيل الفنائين المجتمعيين المتبقيين أعمال تجميل البيئة الخارجية وتركيب حواجز الأمان، حيث أن بعض تلك الأفنية تطل مباشرة على شارع خان الزيت. كما شكلت أعمال الترميم فرصة ثمينة للغاية لأكثر من أربعين من طلاب المرحلة الجامعية والدراسات العليا من جامعة القدس، لإشراكهم في أعمال إعادة التأهيل والمكونات التشغيلية للمشروع وذلك من خلال منحهم فرصة التدريب أثناء العمل وتطوير قدراتهم بالتعاون مع أقسامهم الأكاديمية المختصة وتحت إشرافها مما منحهم فرصة التدريب أثناء العمل وتطوير قدراتهم بالتعاون مع أقسامهم الأكاديمية المختصة وتحت إشرافها.
وتم في المرحلة الثالثة والأخيرة إنهاء أعمال التنقيب عن الكنوز الأثرية وحفظها. حيث توجد اليوم خمسة من تلك المكتشفات الأثرية التي أعيد إليها بهاؤها من خلال عرضها في الموقع لتشمل خزانات المياه الأثرية، وأرضيات الموزاييك، وحمام خاص، وأرضيات الموزاييك، وحمام خاص، وقنوات مياه تعود للعصور الرومانية والبيزنطية وأواخر العصر الإسلامي والمملوكي. كما تم وضع بلاط الأرضيات ذات الأشكال المزخرفة، وطلاء الأجزاء الخشبية، وتجديد كافة الأجزاء الحديدية والزجاجية والتجهيزات الكهربائية والميكانيكية. وشهدت هذه المرحلة استكمال جميع أعمال إعادة تأهيل الطابق الأرضي من خلال تركيب أنظمة حديثة وصديقة للبيئة وتشطيبات داخلية بسيطة تبعث الراحة والسكينة في النفس، بما يمنح الزائر فسحة هادئة بعيدًا عن الصخب والضجيج في البلدة القديمة في قلب مدينة القدس. وقد شملت تلك الأعمال تركيب نظام لمكافحة الحريق خلف الأقبية الحجرية، ونظام تدفئة تحت البلاط، وطبقة "جيوبلاست" لرفع مستوى البلاط بما يسمح بالتهوية المناسبة، ونظام التحكم الكهربائي الذكي (سمارت)، كما تم استخدام تقنيات تجصيص مبتكرة خلال أعمال إعادة التأهيل لتقليل الرطوبة وجعل هذا المكان فريدًا من نوعه.
وخلال النصف الثاني من عام 2021، بدأ فريق محلي عملية التنفيذ العملي لإنشاء ثلاثة مجالات تشغيلية مترابطة، وهي مجال تكنولوجيا المعلومات والإعلام السياحي (TIMe)، ومجال التعليم والابتكار المهني (EPIC)، وتجارب الطهي والطعام (CAFE)، والتي تم تصميمها خصيصًا لدار القنصل لتوفير فرص فريدة للتعليم والتدريب، الأمر الذي من شأنه أن يُفضي إلى نواتج عملية تساهم في تحقيق التطلعات المستقبلية للبلدة القديمة. وفي الأشهر الثلاثة الأولى للتشغيل استفاد أكثر من 1000 شخص من الخدمات التي تقدمها تلك المجالات.
في مجمع دار القنصل: قدم المجال التخصصي في تكنولوجيا المعلومات والإعلام السياحي خدماته لحوالي 250 شخص مستفيد معظمهم من الأطفال، وكان ذلك بشكل أساسي من خلال عرض منتجات وتجارب الواقع الافتراضي والواقع المعزز التي تم تطويرها لدار القنصل والبلدة القديمة. حيث تم تطوير هذا المكون بالتعاون بين برنامج الموئل التابع للأمم المتحدة
(UN-Habitat) وإحدى شركات القطاع الخاص (Intertech). كما قدم المجال التخصصي في التعليم والابتكار المهني خدماته لحوالى 650 مستفيدًا -معظمهم من الشباب- بشكل أساسي من خلال الدورات التدريبية وورش العمل المتعلقة بالتوجيه المهني، والتسويق الرقمي، وريادة الأعمال الاجتماعية، بالإضافة إلى مخيم صيفي وفق منهجية "ستيم". وقد تم تطوير هذا المكون بالتعاون مع حاضنة الأعمال في جامعة القدس (B-CITE).
كما ساهم المجال التخصصي في تجارب الطهي والطعام في مساعدة ثمانية من الطهاة الشباب على اكتساب الخبرة العملية من خلال 20 دورة تدريبية تمت بإشراف شيف محلي شهير متخصص في المطبخ الفلسطيني، والذي قام بعد انتهاء التدريب بإشراكهم في التحضير وتقديم الخدمات في ثماني مناسبات.
وبالتالي فقد قدم هذا المجال خدماته لحوالى 150 مستفيدًا آخر، كان معظمهم من العاملين في مشروع إعادة التأهيل في الموقع، بالإضافة إلى دار للمسنين وملجأ للأيتام. وبالإضافة إلى ذلك، تم تقديم وجبات كاملة أثناء الدورات التدريبية التي تم تنظيمها في كل من مجالات تكنولوجيا المعلومات والإعلام السياحي والتعليم والابتكار المهني، كما تم تقديم خدمات الطعام خلال حفل افتتاح دار القنصل، بالاشتراك مع الشيف طوني زعرور من حراسة الأراضي المقدسة.
وفي نوفمبر 2021، تم افتتاح الموقع من قبل شركاء المشروع: الاتحاد الأوروبي، وبرنامج الموئل التابع للأمم المتحدة، وحراسة الأراضي المقدسة، وجامعة القدس، حيث تم تسليم الموقع في احتفال مهيب إلى حراسة الأراضي المقدسة، بما يعزز مكانة المشروع على خارطة السياحة العالمية. وهذا بدوره يؤكد على رؤية ورسالة دار القنصل، والتي تشمل الوظائف التي تحتضن الجمال الفطري للمبنى، وتجعله في الوقت عينه مركزًا للاستخدام العصري مضيفاً قيمة كبيرة للبلدة القديمة ومشكلاً قاعدة للاحتفاء بالثقافة الفلسطينية. وباعتبار أنه قد تم تأسيسه لوظيفة مجدية اقتصادياً، يضم المركز فريق تشغيلي يتحلى بالمواهب القيادية ويساهم في تعزيز المعرفة وريادة الأعمال لدى الشباب، بالتزامن مع سعيه لأن يصبح مركزًا حضرياً رائدًا ذا حضور عالمي - من خلال العمل على جذب المزيد من الشركاء والز
وار واستقطاب الخبرات والأفكار الجديدة- لتعزيز تأثيره المحلي واندماجه الاجتماعي. وبالإضافة إلى الفعاليات الرسمية المتعلقة بقص شريط الافتتاح وإزاحة الستارة عن لوحة التعريف بالمكان، وعرض المكونات المادية والافتراضية في الموقع، وإلقاء الخطب الرسمية، تم غرس شجرة زيتون مقدسية داخل المجمع في الطابق الأرضي، تحت إحدى نوافذ السقف، بالإضافة إلى صنع اللوحات التعريفية من خشب الزيتون المعاد استخدامه أو تدويره، حيث ترمز شجرة الزيتون إلى أرفع القيم الإنسانية مثل السلام والصداقة والنصر، كما أنها تحمل رمزية محلية فلسطينية خاصة، حيث تمثل الصمود والتمسك بالأرض وشعبها، ممثلة بدار القنصل، بكل ماضيه المشرق ومستقبله الواعد.
"إن المواقع التاريخية في فلسطين ليست مهمة فقط لقيمتها الثقافية والتراثية التي تم تصنيف بعضها بالفعل على أنها تراث عالمي، ولكن أيضًا لإمكاناتها الاجتماعية والاقتصادية الواعدة. لذلك، استثمر الاتحاد الأوروبي في ترميم مجمع دار القنصل ليصبح مركزًا تعليميًا وتكنولوجيًا ومجتمعيًا [...] إن مثل هذه المشاريع أساسية للحفاظ على الهوية الفلسطينية للمدينة".