بقلم: عبد الناصر عوني فروانة
في السابع والعشرين من شباط/فبراير عام 1949، عقدت مصر أول صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال الإسرائيلي. فيما سَجلت الجـبـهـة الشـعـبية لتحرير فلسطين في الثالث والعشرين من تموز/يوليو عام1968، الحضور الفلسطيني الأول على قائمة عمليات التبادل. ومنذ أن سُجلت صفقة التبادل الأولى عام 1949 وصفقات التبادل تتوالي، عربياً وفلسطينياً، حتى وصلت إلى نحو (40) صفقة تبادل أسرى في تاريخ الصراع العربي_ الإسرائيلي. وبذا يحفظ التاريخ أن مصر قد بدأت صفقات تبادل الأسرى عربياً، والجـبهة الشعـبية بدأتها فلسطينياً.
ولقد أبدت الفصائل الفلسطينية، منذ انطلاقاتها، جدية في سعيها لتحرير الأسرى، وكان لديها الاستعداد لدفع استحقاقات كل محاولة، فاجتهدت كثيراً وحاولت مراراً ونجحت عدة مرات، فأنجزت العديد من صفقات التبادل التي كفلت كسر قيد الآلاف من الأسرى رغماً عن المحتل، وكان آخرها صفقة (شاليط) عام2011، وما تُعرف فلسطينياً بصفقة "وفاء الأحرار"، فرسخت تلك الصفقات ثقافة المقاومة وعززت من صمود الشعب الفلسطيني في مواجهته للاحتلال الإسرائيلي، وأبقت على الأمل قائماً لدى الأسرى والمعتقلين وخاصة ذوي الأحكام العالية والمؤبدات.
وفي مثل هذا اليوم العشرين من آيار/مايو عام 1985، أُنجزت واحدة من أبرز صفقات تبادل الأسرى، والتي تُعتبر –من وجهة نظري- هي الأكثر زخماً وروعة من بين مجموع صفقات التبادل في التاريخ الفلسطيني. فلقد تمت وفقاً للشروط الفلسطينية واكتسبت بُعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً، فشملت (1150) أسيراً، بينهم أسرى أجانب وعرب وفلسطينيي 48 والقدس، بالإضافة إلى أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يُستَثنَ أحدٌ، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وقد خُيِّر هؤلاء المحررون في تحديد الجهة التي يرغبون التوجه لها بعد تحررهم.
وبالمقابل أطلق الفلسطينيون في منظمة الجـ بـهة الشعـ بية-القيادة العامة سراح ثلاثة جنود إسرائيليين هم: (الرقيب أول حازييشاي)، أسر خلال معركة السلطان يعقوب، بتاريخ 11حزيران1982. أما الجنديان الآخران فهما (يوسف عزون) و(نسيم شاليم)، كانا قد أسرا في "بحمدون" بلبنان بتاريخ 4 أيلول1982، مع ستة جنود آخرين، كانوا بحوزة حركة فتح، وأطلق سراحهم ضمن عملية تبادل سابقة، كانت هي الأضخم عدداً، عام 1983.
وتٌعتبر صفقة التبادل عام 1985، التي نحتفي بذكراها اليوم، حدثاً نوعياً وانتصاراً تاريخياً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وعلامة بارزة في حيثياتها ونتائجها. كما وشكّلت صفعة قوية للاحتلال، واعتبرت الأكثر وجعاً لأجهزته الأمنية وقيادته السياسية. فيما من تحرروا بموجب الصفقة انخرطوا في العمل النضالي وكانوا شعلة انتفاضة الحجارة عام 1987 وعمودها الفقري، وهم من قادوا فعالياتها وانشطتها ومسيرتها الكفاحية.
لذا لم يكن يوم الاثنين الموافق 20آيار/مايو من عام 1985، يوما عادياً، وانما كان يوماً استثنائيا في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة والحركة الوطنية الأسيرة، وقد حُفر عميقاً في الذاكرة الفلسطينية ولدى كافة الأحرار في العالم.
وإذا كان التاريخ الفلسطيني يحفظ ذاك اليوم بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، لاسيما وأن والدي أبو العبد فروانة –رحمة الله عليه- كان واحداً من المحررين في تلك الصفقة بعد اعتقال استمر لأكثر من 15سنة متواصلة. هذا بالإضافة إلى شمولها عدد كبير من الأقارب والأصدقاء.
فكل الاحترام والتقدير لكل من ساهم في انجازها، ولكل من جعل من العشرين من آيار 1985 تاريخاً تتوارثه الأجيال وتردده الألسن. والتحية موصولة لكل من تحرر في اطار تلك الصفقة الرائعة.
وتحل اليوم السبت الذكرى الثامنة والثلاثين لعملية الجليل، ولا يزال هناك قرابة (4900) اسير/ة فلسطيني/ة يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم المئات ممن لا أمل لديهم بالإفراج، إلا في إطار "صفقات التبادل" وهذه حقيقة يجب أن ندركها جميعا في ظل غياب الأفق السياسي، وحيث لا بد للمقاومة أن تقول كلمتها.
وفي الختام: مازال في السجل متسعاً لإضافة صفقات تبادل جديدة تضمن الافراج بموجبها عن أعداد جديدة من الأسرى الفلسطينيين والعرب في ظل الحديث عن ارتفاع غير مسبوق لقائمة "عمداء الأسرى"، وهو المصطلح الذي يُطلقه الفلسطينيون على من مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين سنة على التوالي، حيث وصل عددهم إلى (400) أسير والعدد مرشح للارتفاع مع قادم الأيام والأسابيع !.
وإذا كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي غير جادة في إتمام صفقة التبادل التي يدور الحديث حولها بين الفينة والأخرى حول ما تمتلكه غزة من أوراق، وليست مستعدة لدفع استحقاقاتها، وهي كذلك بالفعل، فالمطلوب من المعنيين البحث عن أوراق وأدوات ضغط جديدة تحرك المياه الراكدة وتدفعها نحو المفاوضات الجدية وتُجبرها على القبول بدفع استحقاقات التبادلية. فنحن معنيون أكثر من الإسرائيليين في إتمام الصفقة وفي أقرب وقت. فلقد طال انتظارنا والأعمار تمضي خلف القضبان، مع التأكيد على أن حرية الأسرى ضرورة حيوية لترسيخ ثقافة المقاومة وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني.
الكاتب:
عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة.