كل شيء تغيَّر، في جنين تفوح رائحة البارود والرصاص في كل مكان ويعيش سكانها حياتهم بطرقهم الخاصة، شهيد يودع شهيداً، وشهيد يوصي بآخر، شهداء جنين حالهم وشكلهم يختلف عن باقي شهداء فلسطين، في شوارع وأزقة جنين تشتم رائحة الدم في كل مكان. كل بيوت وشوارع وأحياء جنين تعيش الموت وتودع أبنائها الشهداء بالزغاريد والورود في مواكب جنائزية مُهيبة، ولكن للحياة في جنين طعم آخر، فهي محاطة بوابل من الآلام والآمال معاً.
آلامنا كبيرة، ولكن آمالنا أكبر، ومآسينا كثيرة، ولكن البطولة أكثر، سنخفي الكثير من الدمع اليوم، لنغسل به غداً أعلامنا الوطنية المبقَّعة بالدم.
الحق الفلسطيني واضح كالحقيقة الفلسطينية، في المقابل نرى بطل الجريمة ما زال باحثاً عن الدم الفلسطيني وإخفاء الوجود الفلسطيني تارة بالقتل والاعتقال وهدم المنازل وتشريد المواطنين، وتارة أخرى بضم الأراضي الفلسطينية لفرض السيادة الإسرائيلية عليها وتوسيع المستوطنات وبناء مستوطنات جديدة، إذ لم يجر تعديل على نص القتل والتشريد والتهجير وبلاغة القاتل. كل هذه الجرائم والدم المُسال تجري على وقع مسمع ومرأى المجتمع الدولي وأمام سياسة الكيل بمكيالين التي تكيلها الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحتى المنظمات الدولية تجاه اللعب بحقوق شعبنا الفلسطينية.
لا اختلاف على القاتل ولا اختلاف على الجريمة ولكن لا سلام مع الاحتلال ولا أمن معه، ولا حياة مع الاحتلال، ولا تعايش مع عمليات الإبادة والتهجير والتهويد....
إن شعباً يحب الحياة إلى هذا الحد، لن تخذله الحياة، ولا بد له أن ينتصر، حيث اتصل مقاتل من مخيم جنين المُحاصَر والذي يتعرض لعدوان إسرائيلي همجي بصاحبه خارج المخيم قائلاً: «احكي لي نكتة لأضحك قبل استشهادي»، قال صاحبه: «كيف تضحك وأنت على حافة الموت؟»، فقال: «لأني أحب الحياة، أريد ان أودعها ضاحكاً».
هكذا أراد الاحتلال لجنين الحصار والخنق والتدمير والدفع بقوات وآليات جيشه وطائراته في محاولة مليئة باليأس لاجتثاث المقاومة واستهداف المدنيين العزل واستخدامهم كدروع بشرية وإطلاق النار صوب الطواقم الصحفية والإسعاف وحتى المشافي الفلسطينية، لكن إرادة الصمود والتحدي لشعبنا ومقاومته ستكون أقوى من جبروت الاحتلال وعدوانه في إجهاض كافة مشاريع نتنياهو وإلحاق الهزيمة بالاحتلال والتي سيحمل حتماً ذيول هزيمته.
لم ينس الاحتلال ما جرى قبل 21 عاماً عندما أراد تدمير مخيم جنين ذو المساحة الصغيرة فوق رؤوس ساكنيه واهماً أنه سيكسر شوكة شعبنا ومقاومته، فأراد الانتقام منها مرة أخرى مدمراً شوارعها وبنيتها التحتية وبعضاً من بيوتها ومستهدفاً أبنائها ومقاوميها في إطار استراتيجية واضحة المعالم أعلن عنها نتنياهو مؤخراً مخيراً شعبنا بين السجون أو القبور، في خطوات متلاحقة ومتراكمة لحسم الصراع في الضفة وفرض الحل الصهيوني على شعبنا ودفعه للتسليم بالقدر الإسرائيلي، فها هي المقاومة أقوى من ذي قبل ولن تنكسر وستنتصر على الغزاة والمعتدين الإسرائيليين.
جنين ستبقى خزان الثورة والانتفاضة الفلسطينية، جنين ستبقى أيقونة نضالية في العطاء والتضحية، ولها أن تفخر بأبنائها الشهداء والأسرى والمناضلين، وهي التي تتصدر قائمة المدن الفلسطينية في إحصائيات الشهداء والجرحى.
هذا واقع جنين كما هو واقع فلسطين بعاصمتها وبمدنها وقراها ومخيماتها وبجناحي الوطن (48 +67)، وصولاً إلى شتات أبنائها في معارك التاريخ دفاعاً على الهوية والأرض والشعب والحقوق، حيث وصفها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم «يا وجع قلبك يا جنين.. وأنتِ كل يومٍ تودعين بطلاً من رجالك.. وتبكين بحرقةٍ على فتية بعمر الورد.. ويا عزك يا جنين وأنتِ تكتبين بدمكِ تاريخاً مُشرفاً لشعبٍ يموت من أجل حريته.. جنين ستبقى نافذة فلسطين المشرقة نحو الاستقلال والأمل والغد الأجمل!».
جنين لا تريد اجتماعات ولا بيانات ولا استجداءات، بل تريد استراتيجية عملية ترى طريقها إلى النور تتماشى مع متطلبات المرحلة وبما يستجيب لتحدي برنامج ضم الضفة الفلسطينية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها، ومغادرة بيع الأوهام لشعبنا وسياسة الرهانات على اتفاق أوسلو وتفاهمات «العقبة- شرم الشيخ» والوعود الأميركية التي أعطت إسرائيل الدولة المعتدية حق الدفاع عن نفسها في مواصلة عدوانها على شعبنا.
جنين لا تريد سياسة انتظارية ولا خطوات تكتيكية سواءً من السلطة الفلسطينية أو سلطة الأمر الواقع في غزة، جنين لا تريد تحييد غزة وفك معظم روابطها السياسية عن الضفة، جنين تريد مجابهة مشروع نتنياهو القائم على حسم الصراع مع شعبنا وقضيته الوطنية بالضم الشامل لأراضي الضفة ونزع صفة الاحتلال عنها.
لم يعد الوقت كافياً للانتظار أكثر أمام حرب الإبادة والتهجير التي تتعرض لها جنين وغيرها من مدن الضفة وقراها ومخيماتها، فواقع الحالة الفلسطينية بحاجة ماسة لإستراتيجية نضالية تطور من المقاومة الشعبية والمسلحة وتعيد صياغة الخطاب السياسي الرسمي، وتوفير عناصر الصمود والثبات وفي مقدمتها تشكيل الحرس الوطني وفصائل الدفاع الوطني بما يوحد بين المقاومة الشعبية والأجهزة الأمنية، ويضع العالم أمام واقع فلسطيني جديد باتت المقاومة هي خياره بكل ما يتطلبه ذلك من خطوات وإجراءات وسياسات شجاعة تعزز الوحدة الميدانية لشعبنا.
وختاماً، إن معركة صمود جنين ومخيمها اليوم لن يكون كما قبلها، فشعبنا بات يعرف خياراته وهو يملك الإرادة الوطنية بما يمكنه من تجسيد وحدة الأرض ووحدة الشعب ووحدة القضية والنضال بما يحقق وحدة ساحات العمل وجبهات النضال ويعيد الاعتبار للبرنامج الوطني المرحلي، لإلحاق الهزيمة بالعدو والمشروع الصهيوني.