بيت لحم/PNN- يُنذر صوت ارتطام الجبال الجليدية بالبحر الفيروزي شرق "غرينلاند" بالخطر المحيط بمصير أحد أهم النظم الإيكولوجية في العالم، الذي يقترب من الانهيار.
مع ذوبان الجليد، ينتاب الصيادين من شعب "الإينويت" في قرية "إيتوكورتورميت"، التي تضم إحدى آخر مجموعاتهم، قلق في شأن المصدر الذي سيحصلون منه مستقبلاً على المياه .
ويختزن الغطاء الجليدي في "غرينلاند" نسبة واحد من 12 من مجمل المياه العذبة في العالم، وهو ما يكفي لرفع مستوى سطح البحر 7 أمتار في حال ذوبانه، لكنّ التغير المناخي يهدد مصدر المياه الوحيد للسكان.
المياه والغذاء
ويعد الشتاء البارد والجليد الصلب والكميات الكبيرة من الثلوج أمورًا مهمة ليتمكّن أفراد الإينويت في منطقة "سكورسبي ساوند" من تأمين مياههم وغذائهم، إلا أنّ درجات الحرارة في القطب الشمالي ترتفع بوتيرة أسرع بنحو 4 مرات من المتوسط العالمي.
في "إيتوكورتورميت"، وعلى بعد نحو 500 كيلومتر من أقرب مستوطنة بشرية، يحصل السكان البالغ عددهم 350 شخصًا على مياههم العذبة من نهر يغذيه نهر جليدي يذوب بوتيرة متسارعة.
ويقول إرلينغ راسموسن، من شركة المرافق المحلية "نوكيسيورفيت": "ربما سيختفي النهر الجليدي في غضون سنوات قليلة".
ويشير راسموسن إلى أنّ "مساحة الغطاء الجليدي تتقلّص بصورة متزايدة"، مضيفًا: "قد نضطر مستقبلاً لشرب المياه من المحيط".
ومع ارتفاع تكلفة تحويل الثلوج إلى مياه وعدم إمكان الاعتماد على هذه التقنية، بدأت مجتمعات منعزلة أخرى في غرينلاند تتجه إلى تحلية المياه.
لا يخلو "سكورسبي ساوند"، وهو أكبر مضيق بحري في العالم، من الجليد سوى شهرٍ واحدٍ في السنة، فيما يعتمد السكان خلال فصول الشتاء القطبية على اللحوم التي يوفرها الصيادون.
ولا تصل سفن الشحن إلى إيتوكورتورميت، عند مدخل المضيق، سوى مرة واحدة في السنة. وتشكل الجبال الجليدية الضخمة التي تجعل الممر ضيقًا، تحديًا للبحارة.
ويقول يورغن يولوت دانييلسن، وهو مدرّس ورئيس سابق لبلدية القرية: "نحن بحاجة إلى لحوم من حيواناتنا. لا يمكننا الاعتماد فقط على شراء اللحوم الدنماركية المجمدة".
ولكن مع تقلّص مساحة الجليد بفعل ارتفاع درجات الحرارة، بات الصيد التقليدي للفقميات عن طريق مطاردتها عندما تخرج لتتنفس عبر الثقوب الموجودة في الجليد، أكثر صعوبة وخطورة للصيادين المحليين.
كذلك، يصّعب انخفاض المساحات الجليدية من استخدام الكلاب الزلاجة التي يعتمد عليها الصيادون في العادة.
وليس البشر وحدهم من يواجهون هذه التحديات، إذ يدفع تقلّص الجليد الدببة القطبية الجائعة إلى دخول القرية بحثًا عن الطعام.
أسماك القد القطبية في خطر
تُعد الأنهر الجليدية ذات الجدران الزرقاء، التي تقع بين الجبال الحمراء لمضيق رود، عنصرًا رئيسًا في النظام الإيكولوجي.
وبسبب الظروف الحادة في هذا الموقع، ليست الأماكن التي خضعت لدراسات بكثيرة.
ولكن بعد خمس سنوات من التخطيط الدقيق، تسارع المبادرة العلمية الفرنسية "غرينلانديا" إلى توثيق ما يحدث في المنطقة الأكثر تضررًا من التغير المناخي، قبل فوات الأوان.
ويقول قائد البعثة فنسان إيلير لوكالة فرانس برس خلال وجوده على متن قارب البعثة الشراعي كاماك: "نسمع عن الاحترار المناخي لكن هنا يمكننا رؤيته".
وتخشى كارولين بوشار، كبيرة العلماء في مركز "غرينلاند كلايمت ريسيرتش سنتر"، أن يؤدي انحسار الطبقة الجليدية إلى "خفض التنوع الإيكولوجي" في مضيق سكورسبي.
ويتسبب انهيار الجليد في البحر بجعل المياه الذائبة تعلو تلك الموجودة في المضيق والغنية بالمغذيات.
لكن مع ذوبان الجليد، يخسر النظام الإيكولوجي هذه العناصر الغذائية؛ ما يؤدي إلى خفض أعداد العوالق التي تتغذى عليها أسماك القد القطبية التي بدورها تغذّي الفقميات، وهي مصادر البروتين الرئيس لسكان إيتوكورتورميت.
آثار كارثية
على متن القارب كاماك، تتفقد بوشار محتوى شباكها فيما تضيء الشمس الساطعة عددًا كبيرًا من الأنواع البحرية داخل علبة خاصة بها.
وبين العوالق و"الكريل" في عيّناتها، انخفض عدد يرقات سمك القد من 53 في العام الفائت إلى ثمانٍ فقط هذا الصيف.
وتشير إلى ضرورة إجراء تحليل شامل لتحديد أسباب هذا الانخفاض.
وتقول: "إذا انخفضت أعداد سمك القد بصورة مفاجئة، ماذا سيحدث للفقمة الحلقية والدب القطبي؟".
وقد يكون للانخفاض المحتمل في أعداد سمك القد القطبي آثارٌ كارثيةٌ على السكان المحليين.
طحالب تتسبب بذوبان الجليد
ويوفر البحث الجديد الذي أجرته بعثة "غرينلانديا" صورة قاتمة عن مستقبل الغطاء الجليدي. وفي المضيق الذي يشهد درجات حرارة مرتفعة، يصطبغ الجليد بلون أحمر.
وهذا الاصطباغ ناجم عن طحالب ثلجية اسمها "سانغينا نيفالويدس" اكتُشفتت علميًّا عام 2019. وتحمي هذه الطحالب نفسها من أشعة الشمس عن طريق فرز صبغة حمراء مائلة إلى البرتقالي كان لها دور في الحدّ من قدرة الجليد على عكس ضوء الشمس وتسببت تاليًا بتسريع ذوبانه.
ويقول الباحثون إنّ هذه الطحالب مسؤولة عن 12% من إجمالي الذوبان السطحي السنوي للغطاء الجليدي في غرينلاند، أي 32 مليار طن من الجليد، وهو رقم "هائل" على قول العلماء.
ومع انتشار الطحالب، يؤكد العلماء أننا نواجه حلقة مفرغة، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تسريع ذوبان الجليد وتعزيز نمو الطحالب التي تتسبب بدورها في تسريع ذوبان الجليد.
"علينا التنبّه"
ويقول مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية إريك ماريشال: "نحن نواجه كارثة".
ويشير إلى أنّ إثباتًا علميًّا للاتجاه الذي تتخذه الطحالب يتطلّب 30 عامًا من البيانات، بينما لا يتمتع العالم بترف الوقت.
ويؤكد أن "الخطر الذي نواجهه هنا هو اختفاء النظام الإيكولوجي برمّته"، مضيفًا: "لا أعتقد أنّ وقف ما يحصل في الوقت المناسب ممكن".
وعند الاقتراب من نهر جليدي أسفل وادٍ شديد الانحدار في فايكنغبوغت، يوجه قائد البعثة إيلير سلاحه إلى أثر تركه دب قطبي في الوحل.
ويعتبر مارشال أنّ المخاطرة بعبور بلد الدببة تستحق العناء.
تطوير تقنية لإبطاء ذوبان الجليد في القطبين
ويسارع فريقه في المركز الوطني للبحوث العلمية ومركز أبحاث الثلوج التابع لهيئة الأرصاد الجوية الفرنسية، إلى جمع عينات ميدانية في غرينلاند واستعادة بيانات سابقة من الأقمار الاصطناعية للتوصل إلى فهم أفضل لسلوك الطحالب.
ويقول مارشال: "علينا التنبّه ومعالجة هذه المسألة بجدية"، مضيفًا: "ما يحصل في غرينلاند" أساسي لفهم "اضطراب دورة المياه العالمية، والذوبان الكبير للجليد وما يسببه ذلك من ارتفاع مستوى مياه المحيطات".