من الواضح أن الشرق الأوسط الذي خرج منه دونالد ترامب في مطلع العام2021 يختلف تمام الاختلاف عن الشرق الأوسط الذي سيعود إليه في شهر كانون الثاني القادم. شهد الشرق الأوسط، الذي حافظ على نوع من التوازن للقوة والردع بين إسرائيل وحلفائها بدعم أميركي غربي من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، تحولاً جوهرياً في معادلات التوازن خلال العامين الأخيرين. وشكلت هجمات السابع من أكتوبر من العام الماضي نقطة تحول مهمة وغير متوقعة في تلك الموازين والمعادلات، بدأت من غزة وانتقلت إلى لبنان، وانتهت في سورية، وجاءت جميعها لصالح دولة الاحتلال. ورغم أن ترامب يتخذ في العادة خطوات غير متوقعة، الأمر الذي يجعل سياساته تأتي خارج التوقعات أحياناً، إلا أن تلك التحولات المهمة في الشرق الأوسط، وتوجهاته السابقة خلال ولايته الأولى، وتصريحاته الحالية، وتعييناته لمساعديه في شأن المنطقة، قد يكشف عن بعض خفايا سياساته وتوجهاته القادمة للمنطقة. من المتوقع أن يبدأ ترامب حقبته الرئاسية بالتركيز على الشرق الأوسط، والوصول لصفقة لإخراج المحتجزين في غزة، والبناء على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، والاستثمار في سقوط نظام بشار الأسد في سورية، وردع المقدرات النووية الإيرانية، واستكمال اتفاقيات التطبيع خصوصاً بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ولا تأتي تسريبات الإعلام مؤخرا حول صفقة تبادل في غزة، ومحادثات التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، إلا في إطار مهام الإدارة الجديدة، ومدخلاً للاستعداد لتلك الحقبة.
جاءت تصريحات ترامب حول غزة وضرورة اخراج المحتجزين حاسمة، الأمر الذي يفسر أولوية هذا الملف لترامب وادارته. إلا أن كيفية حسم ذلك الملف، وملف الضفة الغربية وضمها، فليس من المتوقع أن يتعارض مع رغبة إسرائيل. فتصريحات إسرائيل بإعادة السيطرة الأمنية على قطاع غزة، لتصبح مثلها كما في الضفة الغربية، أمر لن تقف الولايات المتحدة ضده، إلا أن الولايات المتحدة تفضل أن يكون القطاع تحت إدارة السلطة الفلسطينية، على غير الرغبة الإسرائيلية. وتشير التطورات الأخيرة على الأرض أنه قد يكون للسلطة دور في إدارة القطاع بالفعل. ويتوافق الوصول لصفقة في غزة مع تطلعات الإدارة للوصول لاتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وقد يفسر ذلك بدء التسريبات الإعلامية بوجود مفاوضات حول ذلك الأمر في الوقت الحالي، وبالتزامن مع المفاوضات حول صفقة التبادل. قد تعطل تلك التطورات مشروع الضم الرسمي والمباشر في الضفة الغربية، لكنها لن تمنعه. وترفض الإدارة الجديدة وعدد من قيادات الحزب الجمهوري تنفيذ مخطط الضم حالاً، بحجة أن ذلك قد يؤذي إسرائيل، في ظل حالة من الاستياء العالمي منها بسبب جرائمها في قطاع غزة. ورغم أن الحكومة اليمينية في إسرائيل ترفض اجراء صفقة تبادل وتنادي بضم الضفة الغربية، الأمر الذي يمكن أن يعطل حدوث مثل تلك الصفقات والاتفاقيات، إلا أن التعويل على الضغط الأميركي لاخراج صيغ فضفاضة وإرغام الأطراف الأخرى للقبول بها، يجعل إمكانية قبول حكومة اليمين بها ممكنة.
ورغم تصريحات ترامب السابقة حوّل سورية وعدم نيته البقاء فيها وعدم وجود مصالح لبلاده فيها، إلا أنه بعد سقوط نظام بشار الأسد، باتت سورية ضرورية لصقل التوازنات. فترتيب الأوضاع في سورية وضمان عدم عودتها تحت مظلة إيرانية أو روسية يعد أقل تكلفة لإسرائيل والولايات المتحدة، من حدوث فلتان وعنف وخروج عن السيطرة، خصوصا في ظل التجربة العراقية السابقة، التي لم تنته تبعاتها بعد. إن ذلك يفسر توجه الولايات المتحدة والدول الغربية للاعتراف بالسلطة الجديدة في سورية، رغم خلفيتها، خصوصاً وأن قيادة هذه السلطة قدمت إشارات بنيتها الابتعاد عن أي تأثير إيراني أو روسي، والتزامها بضبط الحدود مع لبنان، لعدم السماح بوصول أي سلاح في المستقبل لحزب الله، رغم موقفها الفضفاض من احتلال إسرائيل للأراضي السورية. من المتوقع أن تبقي الولايات المتحدة قواتها وتنسيقها مع الجهات الفاعلة في سورية، والتي باتت اليوم إسرائيل أحد أطرافها. كما قد تتطور العلاقات الأميركية التركية، في ظل تلك للتحولات، وفي خضم تقاطع الأهداف والمصالح، ليس فقط في سورية، في ظل نظام تركي براغماتي، رغم أيديولوجيته. وفي لبنان، من المتوقع أن تضغط الولايات المتحدة من أجل تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية والميدانية التي تعرضت لها لبنان، وتبعات التطورات الاستراتيجية في المنطقة، خصوصا في سورية وغزة وإيران.
قد يرى ترامب أيضاً أن الفرصة مهيأة لردع إيران وبرنامجها النووي، وقد لا تتكرر مرة أخرى وفق المعطيات القائمة. وكشفت مصادر سياسية إسرائيلية أن حكومة نتنياهو قلقة من الرسائل الواردة من ترامب فيما يتعلق بالملف الإيراني، حيث صرح بسعيه للتوصل إلى اتفاق نووي مع طهران، بدلاً من شن ضربة عسكرية، وهو هدف لا تستطيع إسرائيل تحقيقه بمفردها. ولا يميل ترامب للتورط في هجوم مشترك أميركي - إسرائيلي واسع النطاق، وهو ما تضغط حكومة نتنياهو لتحقيقه. إن هذا يفسر بعض التحليلات الإسرائيلية بأن ضربة قوية لإيران قد تكون قريبة، وقد يكون ذلك بهدف توريط الإدارة الجديدة. إلا أنه من المستبعد أن تشن إسرائيل حرباً واسعة على إيران على غير الرغبة الأميركية، خصوصاً وأن التطورات الجيوستراتيجية في المنطقة تشير إلى مكاسب لصالح إسرائيل. فالتطورات في غزة ولبنان وسورية وتبدل معادلة الردع تأتي في صالح إسرائيل في ظل توجهات براغماتية وعدم الرغبة في التصعيد لم تستطع طهران إخفاءها خلال عام من التوترات. كما أن تلك التطورات، التي جاءت لغير صالح إيران وحلفائها في المنطقة، قد تحسن فرص الذهاب للتطبيع مع دولة الاحتلال، على الرغم من تحسن العلاقات بين دول الخليج وإيران في الفترة السابقة، كما عمّقت حرب الإبادة في غزة الشرخ بين دول الخليج العربية وإسرائيل. لا تخفي الولايات المتحدة وخصوصا ترامب الذي انجز خلال ولايته السابقة اتفاقيات تطبيع مهمة بين دول عربية وإسرائيل رغبته ونيته القيام بتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، فهل تتحقق تلك الرغبة، في ظل تلك التطورات المتراكمة؟ لن تختلف توجهات إدارة ترامب القادمة عن توجهات الإدارة السابقة، وإن ساهمت التطورات الحالية في إمكانية تحقيقها بشكل أكبر. إن تراجع قوة إيران قد يوفر للرياض نفوذاً جديداً لتأمين تعاون طهران في إنهاء الحرب الأهلية اليمنية، خصوصا في ظل اتفاق في غزة. وتبقى معارضة الحكومة اليمينية في إسرائيل لمخططات الولايات المتحدة عاملاً من عوامل إحباط تلك التوجهات للإدارة الأميركية القادمة، وقد تفتح الباب لسيناريوهات أسوأ، لن تستطيع الإدارة الجديدة منعها، في ظل علاقة متأصلة وعميقة بين البلدين. ويبقى السؤال الكبير الآن، ما هي فرص تقويض الأهداف الإسرائيلية فلسطينياً، في ظل تلك التطورات الدراماتيكية الأخيرة في المنطقة؟ إن البحث عن مخارج لتقويض تلك المخططات، والخروج من المأزق الحالي على الصعيد الفلسطيني، يعد أولوية الأولويات اليوم.