غزة / PNN / هيا بشبش - ألم و خوف و موت ونزوح ، مفردات تختصر حرب الإبادة التي خمد لهيبها بعد اكثر من عامين ، بقرار وقف اطلاق نار مزيف كما يصفه ( الغزيين )، سبقه قرار عملية عسكرية واسعة على مدينة غزة وعلى غرار ما تم في شمال القطاع من نسف لكل معالم الحياة فوق الارض وتخريب وتجريف للبنية التحتية ،بدء جيش الاحتلال الاسرائيلي عمليته على المدينة المنكوبة ، لتكون اول مراحله هو محاولة تفريغها من جميع السكان عبر الضغط العسكري .
رسائل حملها الصحفيون والصحفيات خلف عدسات كاميراتهم ، وبين سطور كلماتهم ، بعد أن رفض الكثير منهم النزوح جنوب القطاع وآثروا مواصلة تغطية الاحداث في مدينة غزة ، تغطية لخصت تفاصيل معاناة سكان غزة في ظل الاضطرار للنزوح ونقص الملجأ والغذاء والدواء وأزمة النقل بأسعاره الفلكية في ظل انقطاع المحروقات وغلاء أثمانها ، وحالة العجز التي اصابت اغلب السكان ،على الرغم من الظروف القاهرة والاستهداف المباشر للصحيفين والصحفيات.
" قبل اغلاق الحاجز بيومين ، ذهبت للجنوب ودعت عائلتي وبكيت كثيرا حينها ، وعدت لغزة لمواصلة العمل الصحفي " هذا ما وصفته نور ابو ركبة مراسلة قناة الجزيرة خلال حديثها لنا ، والتي أكدت على :" اصرارها البقاء في مدينة غزة ، لتغطية الاحداث لآخر نفس ".

واوضحت نور والتي تسكن في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة ، ان:" تعرض الحي لقصف شديد ، ما اضطر اهلي للنزوح جنوبا ، لم يبقى في المنزل سوى أختي وابن اخي وانا ، ولكن بعد ثلاثة أيام تقريبا ، تقدمت الآليات بالقرب من الحي ، واشتد القصف المدفعي خاصة ، أخبرت اختي انها الفرصة الاخيرة لمغادرة المنزل ".
ووصفت الأيام التي سبقت قرار وقف اطلاق النار : " بقيت لوحدي ، انضمت اختى وابن اخي لافراد اسرتي جنوبا ، حينها شعرت بالوحدة لأول مرة ، سابقا كانت اسرتي بجانبي ، كنت قد لجأت الي خيمة الصحفيين في مستشفى الشفاء وكنت أنام هناك ، لم افكر للحظة بالنزوح ، شعرت ان سكان غزة قد اعجبوا بثباتنا معهم ، كان يجب أن اوصل رسالتهم وأن انقل ما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم رغم الليالي والايام الصعبة التي مررت بها ".
في نفس السياق ، سلطت الصحفية صابرين البوجي والتي تعمل مراسلة لعدة وكالات اعلامية الضوء على دورها في الاسرة ، فهي المعيل الوحيد لأسرتها بعد اصابة والدها نتيجة قصف قريب لخيمة نزوحهم في منطقة الزوايدة قبل الهدنة الاولى وقبل عودتهم ، مما اضطرها للاختيار بين أمرين (أحلاهما مر) كما وصفته ، وأضافت :' إما مواصلة العمل والبقاء وحيدة بعد نزوح والداي واخي جنوبا ، فانا المعيلة لهم ، وإما النزوح معهم لرعاية والداي ولتلبية احتياجاتهم فأخي مازال صغيرا ، وكان للاختيار الاول الكفة الراجحة خاصة وان الدافع له كان اقوى في مواصلة نقل الحقيقة ".
"تحديات مضاعفة ، مع اشتداد القصف واقترابه من منزلي في حي الرمال الغربي منطقة البلاخية ، اضطررت للنزوح من المنزل ، ولكن ما من ملجأ ، لذلك نمت في الشارع بالقرب من مستشفى الشفاء " هذا ما قالته صابرين عن ما واجهته خلال تغطيتها الاحداث في غزة .

وتابعت صابرين " كان الاصعب عدم توفر الطعام فجميع محلات الطعام قد اغلقت ، بسبب العملية العسكرية على مدينة غزة، والكثير منهم قد نزح للجنوب ، لم أبدل ملابسي لم انم خلال الايام الثلاث ، كانت أيام صعبة جمعت بين الخوف والجوع والبرد والارهاق ، حتى وجدت ملجأ لي وهو منزل لاحد أصدقاء عائلتي ، انتهى جزء كبير من المعاناة ولم تنتهي معاناة الابتعاد عن اسرتي والخطر الناتج عن الحرب، اصبح حلمي ان اجتمع انا واسرتي على مائدة طعام واحدة ، فحتى بعد الهدنة انا في غزة وهم مازالوا جنوبا الي حين ان اتدبر لهم مأوى " .
من جانبها اكدت علا كساب عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين خلال اشرافها وإدارتها لخيمة الصحفيين في مدينة غزة على ان النقابة قدمت خدماتها للصحفيين ككل على مدار السنوات ، وخاصة في حرب الابادة ، وقد استضافت خيمة الصحفيين ومركز التضامن في مدينة غزة العديد من الوكالات في وقت كان الصحفيين بأمس الحاجة لمكان يتوفر فيها مصدر طاقة كهربائية وشبكة انترنت .
وأشارت كساب خلال حديثها الي وجود استهداف متعمّد ومقصود من قوات الاحتلال للصحفيين ، ضمن سياسة التدمير ومحاولة وئد الحقيقة وإبادة المجتمع المدني التي تتبعها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بالعموم. وقد سجلت النقابةتدمير 200 مؤسسة اعلامية بين التدمير الكلي والجزئي ، واستهداف مباشر لصحفيين خلال وجودهم في منازلهم وسط عائلاتهم، وخلال عملهم أيضا، في تجاهل كامل للقوانين الدولية كافة المواثيق والتي تنص على ضرورة حماية الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام .

كما أوضحت كساب أن نقابة الصحفيين في مدينة غزة ، اضطرت لتغيير اوقات عملها بناء على احتياجات الصحفيين ومع تقدم آليات قوات الاحتلال بالقرب من مجمع الشفاء الطبي، مما أجبر الصحفيين على إخلاء خيمة النقابة التي تقع امام بوابة مجمع الشفاء ، واللجوء الي مركز التضامن التابع للنقابة، بالرغم من عدم تهيئته للمبيت الا ان حاجة الصحفيين جعلتها الملجأ الوحيد لهم ، وقد عملت النقابة على توفير احتياجاتهم وقد وفرت للصحفيين وجبات طعام وشبكة انترنت سريعة ومصدر للطاقة .
وفي خلاف ما قامت به نور وصابرين ، فضلت أمل الوادية مراسلة جريدة القدس التنقل بين جنوب القطاع وشماله بعد نزوحها مع عائلتها الي جنوب القطاع ، تقول :" منذ السابع من اكتوبر 2023 ، لم أشعر بالاستقرار ليوم واحد ، فأنا كنت اسكن وعائلتي في حي الشجاعية، وهو من الاحياء الشرقية لمدينة غزة والاكثر خطورة ، لذلك نزحت من منزلي منذ الايام الاولى للحرب، والي اليوم لا زلت انزح من مكان الي أخر ".
وتصف الوادية تنقلها ب( الاعمال الشاقة ) ، وتقول :" اضطررت للتنقل بين غزة والنصيرات ، كان الطريق طويل ومرهق ومكلف ، تستغرق الطريق ما يزيد عن ستة ساعات بسبب الازدحام ، مما يضطرني الي المبيت في غزة ليومين في منزل اختي والتي فضلت الصمود هي واسرتها الصغيرة والعودة بعد ذلك للنصيرات لانضم لعائلتي ".
وعن الدافع الذي كان يحثها على المواصلة ، تحدثت الوادية :" كان لابد من اصال صوت سكان غزة ، كنت أشعر بقهرهم وهم يسألوني في كل مرة ، لماذا تصورين ، فلا أحد يرى ، ولكني كنت على علم بأن العالم يرى ما ننقل من حقيقة ولكن الاستجابة بطيئة جدا ".
واكملت وهي تتذكر اصعب ما مرت به في أيام تغطية الأحداث مع بداية وقف اطلاق النار : " اتصلت على هاتفي قوات الاحتلال خلال تغطيتي في الطابق السادس لاحد المنازل ، وطلبوا اخلاء المكان فورا ، دقائق فقط فصلت بين قذائفهم التي انهالت على موقع التصوير ".
من جانب آخر أكدت الدكتورة هالة سكر مشرف قسم الصحة النفسية في الجمعية الوطنية للمعاقين والتي قدمت خلال حرب الابادة جلسات تفريغ نفسي للصحفيات ان " تجربة التغطية الميدانية تحت القصف من أشد التجارب الصادمة نفسيًا، لأنها تجمع بين التعرض المستمر للخطر وواجب البقاء في الوعي الكامل لتوثيق الحدث ،وفي الحالة الفلسطينية، كانت الصحفيات أمام معادلة مستحيلة وهي أن ينجين بأرواحهن دون أن يفقدن الحقيقة ".

وأضافت سكر " تلك الصعوبات لا تتبدد بانتهاء الحرب، بل تتحول إلى طبقات من الذاكرة الصدمية تحتاج إلى تفكيك ومعالجة طويلة الأمد ، فمن أبرز المظاهر النفسية التي ظهرت خلال المقابلات والجلسات الميدانية ، استنفاد الجهاز العصبي ( اليقظة الدائمة ) ، التناوب بين نوبتين الذعر والتجمد ، تشوش الإحساس بالزمن والواقع ، فقدان الشعور بالأمان الشخصي والمهني ،الانفصال الانفعالي كآلية بقاء ، اضطراب الهوية المهنية والشخصية ، الاغتراب النفسي والاجتماعي ".
وختمت سكر حديثها " ان الصحفيات بحاجة ماسة الي جلسات مطولة من التفريغ النفسي لتخفيف ما مررن به خلال تغطيتهن للأحداث وفي محاولة للتقليل من الضغوطات التي تشكل عبء ذاتي ونفسي عليهن ، وتنفيذ تدريبات متخصصة في الرعاية الذاتية والمرونة النفسية لمساعدة الصحفيات على الموازنة بين الدور المهني والذاتي".
