بقلم: عبد الناصر فروانة
ارتقى الأسير القائد ناصر أبو حميد شهيداً، بعد أن عجزنا، مجتمعين، عن فك أسره كي تتمكن والدته الصابرة من وداعه وهو يعدّ أيامه الأخيرة، ليطل علينا بعدها وزير الحرب الإسرائيلي "بني غانتس" ويُعلن رسمياً رفض تسليم جثمانه والاستمرار في احتجازه في ثلاجات الموتى، التي جعلت منها دولة الاحتلال، ومن مقابر الأرقام، سجوناً للشهداء بعد استشهادهم. ليرتفع عدد الجثامين المُحتجزة التي تعود إلى فلسطينيين استشهدوا داخل سجون الاحتلال إلى 11 جثماناً، أقدمُهم الشهيد أنيس دولة الذي استشهد في سجن عسقلان سنة 1980، وآخرهم الشهيد ناصر أبو حميد، انتقاماً منهم وعقاباً جماعياً لعوائلهم وشعبهم الذي ما زال ينتظر عودتهم. وكثيراً ما استُخدمت الجثامين المحتجزة لغرض الضغط والمساومة، وهذه الجثامين هي جزء من قائمة طويلة تضم أكثر من 370 جثماناً، لشهداء فلسطينيين وعرب، محتجزة لدى الاحتلال، في واحدة من أبشع الجرائم الأخلاقية والإنسانية والقانونية والدينية التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي علانية، كجزء من سياسة إسرائيلية ممنهجة ومتّبعة منذ أعوام طويلة.
فبالأمس القريب كنا نُطالب بالإفراج عن الأسير المريض "ناصر أبو حميد" وهو مُكبل اليدين في سجون الاحتلال، واليوم انتقلنا إلى المطالبة بالإفراج عن جثمانه الأسير في سجون الموتى، كي تتمكن والدته وأفراد عائلته ومحبوه من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، ودفنه في مدافن وأمكنة مؤهلة وقبور معلومة، وفقاً لتقاليد الشريعة الإسلامية.
ونذكر هنا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت ناصر أبو حميد (50 عاماً) للمرة الأولى وهو قاصر، ثم توالت الاعتقالات عدة مرات، واعتُقل في المرة الأخيرة في 22 نيسان/أبريل 2002، وصدر بحقه حكماً بالسجن المؤبد المفتوح سبع مرات، بالإضافة إلى 50 عاماً أُخرى، وهو أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة "فتح" وواحد من قيادات الحركة الأسيرة، وكانت سلطات الاحتلال هدمت بيت عائلته أربع مرات، كان آخرها سنة 2019.
في آب/أغسطس 2021، طرأ تدهور خطِر على الوضع الصحي للأسير المقاوم العنيد ناصر أبو حميد، الذي يمضي حكماً بالسجن الفعلي المؤبد المفتوح سبع مرات، بالإضافة إلى 50 عاماً أُخرى، وأُعلن لاحقاً اكتشاف ورم في جسده، فتبين بعد فترة وجيزة، وفي إثر التشخيص الطبي، أنه مصاب بمرض سرطان الرئة، وفي مرحلة متقدمة. هذا المرض الخبيث أصابه خلال فترة سجنه الأخيرة التي طالت وامتدت نحو عشرين عاماً متواصلة. ولربما كان "ناصر" مصاباً بالمرض من دون أن تُفصح إدارة السجون عن ذلك، حتى استوطن المرض في رئتيه وانتشرت الخلايا السرطانية في كافة أنحاء جسده، فتدهورت حالته الصحية لدرجة الخطورة، فاضطرت حينها إلى إعلان خبر إصابته بالمرض الخبيث. فهذا من طبعها، وهذه عاداتها، ولدينا تجارب سابقة ومريرة مع إدارة السجون الإسرائيلية، التي كثيراً ما أخفت الملفات الطبية الخاصة بالأسرى، وفي مرات عديدة رفضت الكشف، أو الإفصاح عن طبيعة الأمراض التي يعانيها بعض الأسرى الذين ظهرت عليهم أعراض المرض.
ومرت الأيام ثقيلة والساعات بطيئة، فانتشر الورم في جسد "ناصر" وازداد وضعه الصحي تدهوراً، وتفاقمت معاناته، واتسع جرحه ووجعه، فإذا به ليس بـناصر الذي نعرفه، وباتت الصورة أكثر ألماً. كل ذلك حدث في ظل استمرار الاستهتار الإسرائيلي بحياة الأسرى وأوضاعهم الصحية وتدني مستوى الرعاية الصحية المقدمة لهم داخل السجون الإسرائيلية.
ومنذ إعلان إصابته بالمرض الخبيث، كان هناك ضغوط فلسطينية رسمية، ومطالبات فصائلية وحقوقية وقانونية كثيرة، وشهدت الأراضي الفلسطينية فعاليات شعبية واسعة للمطالبة بالإفراج عن الأسير المريض ناصر أبو حميد، إلا إن ذلك لم يُثمر شيئاً، ولم يحقق الهدف المرجو، في ظل التعنت الإسرائيلي والرفض القاطع للإفراج عنه، حتى أُنهك جسده بالكامل ودخل في مراحل الاحتضار، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة وهو لا يزال مقيداً بالأصفاد، ليرتقي شهيداً فجر يوم الثلاثاء 20 كانون الأول/ديسمبر 2022، نتيجة القتل الطبي المتعمد، ليُضاف إلى 5 أسرى آخرين استشهدوا خلال العام المنصرم، ولترتفع بهم قائمة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة إلى 233 شهيداً. هذا بالإضافة إلى مئات آخرين استشهدوا بعد خروجهم من السجن، وكأن لسان حال المحتل الإسرائيلي يقول: إمّا أن يموت الأسير الفلسطيني بسلاح القتل البطيء، أو أن يبقى يعاني ويموت جرّاء المرض، أو بالرصاص بعد خروجه، ولا فرق إن كان هذا سيحدث داخل السجن أم خارجه، فالنتيجة النهائية المبتغاة هي الموت للأسرى، وهو ما يزيد في أعداد الشهداء منهم، فنراهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، ولن يكون ناصر آخرهم.
وفي هذا المقام، ونحن نودع عاماً ونستقبل عاماً جديداً، وأنا هنا لا أستثني أحداً، لا بد من ردة فعل مغايرة، فمَن فشل في الإفراج عن الأسير "ناصر أبو حميد" وهو يحتضر؛ لن يكون بمقدوره، بالأدوات ذاتها، الإفراج عن المرضى الآخرين وحمايتهم من خطر الموت؛ والذين ارتفع عددهم مع نهاية العام إلى أكثر من 600 مريض، بينهم 24 مصابون بالسرطان. وسيعجز كذلك عن تحرير أشقاء ناصر الأربعة: نصر، المحكوم بخمسة مؤبدات؛ محمد، المحكوم بمؤبدين وثلاثين عاماً؛ شريف، المحكوم بأربعة مؤبدات؛ إسلام، المحكوم بمؤبد وثمانية أعوام. ولن يكون بمقدوره أيضاً كسر قيد بقية أسرى المؤبدات الذين ارتفع عددهم مع نهاية العام المنصرم 2022 إلى 552 أسيراً. وسيقف عاجزاً وهو يعدّ السنوات التي يمضيها قدامى الأسرى في سجون الاحتلال، والذين سجلوا أرقاماً صادمة وغير مسبوقة في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة، إذ ارتفعت قائمة "عمداء الأسرى"، وهو المصطلح الذي يُطلقه الفلسطينيون على مَن تجاوزت سنوات اعتقالهم العشرين سنة على التوالي وما زالوا في الأسر، لتصل إلى 330 أسيراً، ومن بين هؤلاء يوجد نحو 39 أسيراً تجاوزت سنوات اعتقالهم الربع قرن بشكل متواصل، منهم 25 أسيراً ما زالوا معتقلين منذ ما قبل اتفاق أوسلو، ومن هؤلاء 19 أسيراً مضى على اعتقالهم ثلاثون عاماً وما يزيد، بينهم 9 أسرى مضى على اعتقالهم أكثر من 35 عاماً. ويُعتبر الأسيران كريم وماهر يونس، المعتقلان منذ كانون الثاني/يناير1983، أقدم الأسرى، ويمضي كلٌّ منهما حكماً بالسجن الفعلي لمدة 40 عاماً، ومن المفترض أن يُفرَج عن "كريم" في 5 كانون الثاني/يناير، وماهر في 17 كانون الثاني/يناير الجاري، بعد قضاء كل منهما مدة محكوميته كاملة، ومن دون أن يحررهما أحد. لذا، آن الأوان للتعامل بطريقة مُغايرة مع كافة الملفات ذات العلاقة بالحركة الوطنية الأسيرة، وهذه مسؤولية الجميع، والبحث عن آليات جديدة وأدوات فعل أكثر ضغطاً وأكثر تأثيراً، قبل نفاذ الوقت.