بقلم: تيسير خالد
في الرابع من آذار الجاري سافر وفد ايراني رفيع المستوى الى بيجين للقاء بوفد سعودي رفيع المستوى كذلك ، حيث انطلقت بين الجانبين برعايه صينيه ومشاركة السفير الروسي مفاوضات استمرت خمسة ايام تم الاعلان في إثرها عن اتفاق سعودي ايراني على استئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين ببيان صيني مقتضب فاجأ الجميع . فبعد سبع سنوات من قطع العلاقات بينهما، أعلنت الرياض وطهران أنهما ستعيدان فتح السفارات والممثليات الدبلوماسية في غضون شهرين وتنفيذ اتفاقيات التعاون الأمني والاقتصادي الموقعة قبل أكثر من 20 عامًا.
كان ذلك نجاحا باهرا للديبلوماسية الصينية ، وهو نجاح فاجأ الجميع بمن فيهم الادارة الاميركية وحكومة تل أبيب. ما كان هذا النجاح الباهر ممكنا بدون الرعاية الصينية والدعم الروسي من وراء ستار . ما يلفت الانتباه هنا ان الصين دخلت على خط هذا الانجاز كضامن لوصوله الى غايته المنشودة وهو أمر جديد في تقاليد السياسة الخارجية الصينية، فالمنطقة لا ترى فيها الصين منطقة نفوذ على الطريقة الاميركية او الدول الاوروبية الاستعمارية ، وهي لم تكن تدخل في حسابات أمنها القومي. فحسابات الأمن القومي الصيني تقع في الشرق، في تايوان بشكل خاص وفي شرق آسيا والمحيط الهندي بشكل عام، هكذا كان الحال على امتداد سنين حين مدت الصين يد المساعدة لكل من الفيتنام وكوريا الشمالية في وجه عدوانية الامبريالية الاميركية في تلك المنطقة وهكذا كان الحال بالنسبة لمنطقة المحيط الهادي ، أما الشرق الاوسط فلم يكن في عداد حسابات الأمن القومي الصيني. ضمانة الصين للاتفاق بين السعودية وايران يفرض عليها التزامات جديدة،
وهي التزامات يجب ان تأخذها البلدان المعنية، كما الولايات المتحدة الاميركية ودولة الاحتلال الاسرائيلي بعين الاعتبار، هي التزامات نحو أمن الخليج وبخاصة المملكة العربية السعودية، يساعد الصين في ذلك انه لم يكن لها ارث استعماري ولا أطماع استعمارية في هذه المنطقة من العالم ، ما يسهل عليها مهمتها في رعاية الاتفاق .
على النقيض من ذلك تبدو صورة الولايات المتحدة الاميركية ، التي لم يكن في حساباتها دفع الامور بين الرياض وطهران في مثل هذا الاتجاه لاعتبارات عدة. فمن جهة ليس بينها وبين طهران ما يساعدها على ذلك فضلا عن سياستها التي قامت على امتداد عقود على عزل طهران دوليا، ومن جهة ثانية كانت علاقاتها مع الرياض تشهد توترات ارتفعت حدتها مع دخول جو بايدن البيت الابيض قبل عامين. هي توترات تعود في المنشأ الى إحجام واشنطن عن تلبية احتياجات سعودية تساعدها على توفير حد أعلى من أمنها القومي في منطقة مضطربة وتوترات زادت من حدتها إعلان واشنطن تصميمها على تحويل السعودية الى دولة منبوذة على خلفية ما تسميه واشنطن بموقف الرياض من حقوق الانسان وعلى خلفية قضية خاشقجي ومصيره المحزن في العاصمة التركية.
هنا كانت قصة حقوق الانسان في السعودية وقضية خاشقجي الستار الذي تختفي وراءه العوامل الحقيقية التي لعبت دورا في توتر العلاقات بين واشنطن والرياض ، فليس هنالك ما هو جديد في قصة حقوق الانسان في السعودية، فالبلد على امتداد تاريخه منذ تأسيس المملكة بلد محافظ له ثقافته الخاصة وتقاليده المعروفة على هذا الصعيد. أما الجديد في توتر هذه العلاقات فهي الاستدارة السعودية منذ سنوات قليلة نحو علاقات اوسع مع هذا العالم، وهي استدارة لا تروق للولايات المتحدة الاميركية ، التي طالما تعاملت مع المنطقة بأسرها ومع بلدان الخليج وخاصة السعودية باعتبارها منطقة نفوذها ،
التي ورثتها عن الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي بعد العدوان الثلاثي على مصر ( حرب السويس ) عام 1956 .
تفاجأت الولايات المتحدة الاميركية بالاتفاق ، رغم ادعاء الناطقين بلسان الادارة انهم كانوا على اطلاع بما يجري . كان الاتفاق صدمة لكل من الولايات المتحدة الاميركية ودولة الاحتلال الاسرائيلي ، كل لاعتباراته . فالولايات المتحدة لا يروق لها مثل هذا الانجاز وترى فيه تمددا للنفوذ الصيني في منطقة تعتبرها منطقة نفوذها ، وقد كانت في الأصل تبدي انزعاجها العاجزعن مواكبة تطور العلاقات بين السعودية والصين الشعبية على المستويات السياسية والتجارية والشراكة الاقتصادية ، حيث نما حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين خلال السنوات الخمس الماضية وبلغ خلال الفترة الممتدة من 2017 إلى 2021 نحو 1.2 تريليون ريال (320 مليار دولار)، ما يعكس رغبة في تطوير شراكة اقتصادية وتنوع الفرص التجارية والاستثمارية لدى البلدين في ظل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، التي تنسجم في كثير من جوانبها مع رؤية 2030 لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
هذا النمو المطرد في حجم التبادل التجاري بين االسعودية والصين والذي بلغ في عام 2021 نحو 304.3 مليار ريال مقابل 221.6 مليار ريال في عام 2020، مرتفعاً بنسبة 37 في المائة، بينما في ذات العام ارتفعت الصادرات السعودية إلى الصين 59 في المائة والواردات بنسبة 12 في المائة. وتعززت تلك العلاقات وبدأت تأخذ ابعادا واعدة بعد زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى الصين في 2017 ، والتي شكلت نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، باعتبارها أول زيارة رسمية لملك سعودي إلى بكين، تلتها زيارتان للرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض في 2016 و2022، حيث وقع الطرفان اتفاقيات بأكثر من 65 مليار دولار. ليس هذا فحسب بل ان الاستثمارات المتبادلة بين البلدين شهدت تطورا ملحوظا كذلك ، حيث استحوذت السعودية على أكثر من 20.3% من استثمارات الصين في العالم العربي بين العامين 2005 و2020، والبالغة 196.9 مليار دولار ، فيما بلغت قيمة الاستثمارات السعودية في الصين 8.6 مليارات ريال، وجاءت المملكة في المرتبة الـ12 في ترتيب الدول المستثمرة في الصين حتى نهاية العام 2019.
وعلى الضفة الاخرى تستحوذ الصين على 25% من التجارة الإيرانية ، كما أن 50% من منتجات النفط والغاز الإيراني تحصل عليها بكين، وقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 50 مليار دولار في عام 2014، بعد أن كان قبل عقد من ذلك التاريخ 500 مليون دولار فقط . بالطبع تراجع حجم التبادل التجاري بين بكين وطهران في السنوات الأخيرة بفعل تداعيات العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الآميركية على ايران، غير انه ما زال يدور في فلك 30 مليار دولار في العام، وهو مرشح للارتفاع بعد توقيع الاتفاق بين طهران والرياض في بيجن قبل أيام.
دولة الاحتلال الاسرائيلي بدورها أصيبت بصدمة تكاد تطيح بأحلامها في بناء علاقات مع دول المنطقة تتجاوز من خلالها صراعها مع الفلسطينيين . لسان حالها كان يقول بأن تطبيع العلاقات مع دول المنطقة لم يكتمل بعد وهو لا يكتمل دون مشاركة المملكة العربية السعودية، فهي آخر القلاع في ما سمي بالاتفاقيات الابراهيمية . هكذا كان يبني بنيامين نتنياهو أحلامه بما هو ابعد من الاتفاقيات الابراهيمية ، بمشاركة العربية السعودية في تحالف اقليمي ضد ايران، حتى من روما، التي حل ضيفا عليها في اليوم ، الذي أعلن فيه عن الاتفاق بين طهران والرياض، ما عرضه لسهام جارحة من المعارضة بدءا بإيهود باراك وايهود اولمرت مرورا بيائير لبيد وبيني غانتس وانتهاء بأفيغدور ليبرمان. نتنياهو انشغل بانقلابه على القضاء والديمقراطية على حساب المصالح الاستراتيجية للدولة. هذا كان لسان حال ليس فقط زعماء المعارضة بل ووسائل الاعلام وأوساط نافذة في الرأي العام الاسرائيلي.
إذا كان هذا هو حال كل من الولايات المتحدة الاميركية ودولة الاحتلال الاسرائيلي ، فما هو حال الدول التي تسلقت شجرة التطبيع مع دولة الاحتلال. هي رحبت بالاتفاق بين طهران والرياض، وهو ترحيب مليء بالمرارة بدءا بالامارات العربية المتحدة ودولة البحرين وانتهاء بالمملكة المغربية وسودان البرهان وحميدتي. بعضهم باع الشعب الفلسطيني بحجة حماية مصالحه ومستقبله من خطر أن يتخذ بنيامين قرارا بضم المناطق المصنفة ( ج ) في الضفة الغربية ولم يحرك ساكنا في وجه سياسة الضم الفعلي، الذي يجري على الارض الفلسطينية على ايدي حكومة هي الاكثر تطرفا وعدوانية وفاشية في تاريخ اسرائيل. خروجا على التقاليد الرصينة في العمل السياسي كانت تلك " مزحة سمجة " حين يجري تقديم فقد المناعة الوطنية والقومية للحكومات باعتباره فضيلة توفر الحماية للفلسطينيين.
السؤال الآن هل تواصل دول التطبيع المحزن سياستها بصرف النظر عن التطورات الجارية في المنطقة بعد انهيار الجدار الدفاعي الإقليمي الذي كانت اسرائيل تحلم ببنائه ضد إيران وبعد الاتفاق، الذي يشكّل نقطة تحوّل استراتيجية في المنطقة على حد تعبير قادة دولة الاحتلال الاسرائيلي. الأيام القادمة تعطي الجواب على ذلك، وفي ظني ان النزول عن الشجرة.