بقلم: عبد الناصر فروانة
رأت سلطات الاحتلال أن جسد الأسير المعذّب في حالته الفردية، يمتد إلى الجسد الفلسطيني العام، بمعنى نقل الخوف والرعب إلى المجتمع الفلسطيني ومحاولة ضبطه وترهيبه من خلال الفرد، وهذا يتوافق مع حديث الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" عن مبدأ الضبط الاجتماعي العام، الذي يؤمّن "امتداد السيطرة والسلطة من جسد السجين المعذَّب إلى جسد المجتمع".
لقد استشعر الأسرى الخطورة مبكراً، وأدركوا منذ زمن بعيد، أن ما يمارسه السجّان بحقهم ليس عملاً ارتجالياً، أو إجراءً استثنائياً صدر عن هذا المدير أو ذاك الضابط، هنا أو هناك، وإنما كل ما تمارسه وتقترفه إدارة السجون الإسرائيلية بحقهم، على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، يأتي تنفيذاً لقرارات صدرت عن جهات عليا، أو ترجمة لقوانين نُوقشت وأُقرَّت في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، وذلك في إطار سياسة ممنهجة تستهدف الفرد والجماعة، أي الأسير والمجتمع الفلسطيني، لتطويعهم وكسر إرادتهم وتشويه مسيرة كفاحهم وغرس وعي جديد لديهم جميعاً، يقضي بعدم جدوى المقاومة.
شرَع الأسرى في الرابع عشر من شباط/ فبراير الماضي في تنفيذ سلسلة خطوات من التمرد والعصيان وعدم الالتزام بقرارات السجن، ولجؤوا إلى خطوات احتجاجية متنوعة، وذلك رداً على سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية داخل السجون، دفعتهم إلى خيار وحيد هو المواجهة والضغط على السجّان، فتسلحوا بعدالة قضيتهم، وأعلنوا الاستنفار العام، وبدؤوا بالتعبئة الشاملة والتحشيد النفسي والمعنوي.
وجاء ذلك رداً على تصعيد القمع الإسرائيلي للأسرى واتخاذ إجراءات جديدة للتضييق عليهم منذ تأليف الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وتسلُّم "إيتمار بن غفير" وزارة الأمن القومي، والذي لطالما نادى بالانتقام من الأسرى وطالب بإعدامهم، وتعهّد خلال حملته الانتخابية جعل حياتهم خلف القضبان جحيماً، إذ شرعت إدارة السجون في تنفيذ تعليماته القمعية وترجمة قراراته التعسفية، فبدأت بإغلاق المخابز وتزويد الأسرى بخبز رديء، وفي بعض الأحيان خبز مجمّد، واتخذت إجراءات بهدف التحكم في كمية المياه المستخدمة وتقليص الوقت المستغرق للاستحمام، وتقييد الخروج إلى الفورة (ساحة القسم) ووقت المكوث فيها، وضاعفت عمليات الاقتحام والتفتيش واستخدام القوة المفرطة، مستخدمةً القنابل الصوتية والكلاب البوليسية، وتعمّدت النقل التعسفي لعدد من قيادات الحركة الأسيرة والمحكومين بالمؤبدات، ووسّعت استخدامها العزل الانفرادي، ورفعت أعداد المعزولين في زنازين ضيقة، ومصادرة أدوات كهربائية من بعض الأقسام، وحجبت الكثير من الأصناف الغذائية وأدوات التنظيف التي يشتريها الأسرى على نفقاتهم الخاصة من مقصف السجن، وفرضت تضييقاً على إدخال الملابس، ووضعت عراقيل أمام برنامج زيارات الأهل، واعتدت على الأسيرات وانتهكت خصوصيتهن.
وما زال هناك إجراءات أُخرى في انتظار التنفيذ، بينما يسود أوساط الفلسطينيين القلق من قرارات جديدة غير قابلة للتوقّع في ظل وجود "بن غفير" وحكومة اليمين المتطرف. هذا بالإضافة إلى مناقشة وإقرار مجموعة من القوانين في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، والتي تهدف إلى تشريع الجريمة، كقانون حرمان الأسرى من العلاج، وقانون سحب الجنسية والإقامة من أسرى القدس والـ 48، الذين يتلقون مساعدات من السلطة الفلسطينية، وقانون إعدام الأسرى لمن شارك في عمليات فدائية أدت إلى مقتل إسرائيليين، وهو ما منح الإسرائيليين الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الجرائم بحق الفلسطينيين. وهذا ما يفسّر توسُّع عمليات إطلاق الرصاص تجاه الطلقاء، وازدياد جرائم الإعدام الميداني بشكل لافت، من جانب، وسقوط العديد من الفلسطينيين شهداء بعد اعتقالهم، وارتفاع أعداد الأسرى المرضى جرّاء تردّي الأوضاع الصحية واستمرار سياسة الإهمال الطبي، من جانب آخر. هذا وغيره، أدى إلى توتير الأوضاع أكثر داخل السجون ووضعها على "صفيح ساخن"، والذي من الممكن أن يتطور ويؤدي إلى "الانفجار" .
وقد أبدع الأسرى في العصيان المدني الأخير، في استحداث أساليب نضالية، كالإرباك الليلي، وهو أسلوب مبتكر استلهموه من تجربة مسيرات العودة وكسر الحصار في غزة، وارتداء زي "الشاباص"، لتأكيد استعداد الأسرى للمواجهة الجماعية، وهو الزي الموحد الذي تزود مديرية السجون الأسير به لحظة دخوله السجن، ومطبوع عليه ثلاثة أحرف بالعبرية وهي اختصار لمديرية مصلحة السجون الإسرائيلية، وحلّ الهيئات التنظيمية، وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى الاعتصام داخل الساحات، وإغلاق الأقسام، وعرقلة ما يسمى بالفحص الأمني (دقّ الشبابيك)، وإعادة وجبات الطعام، وتأخير الدخول إلى الأقسام بعد انتهاء (الفورة)، وتأخير الخروج إلى (البوسطة) في أثناء عمليات النقل، وإعاقة إجراء العدد اليومي وعقد جلسات تعبئة في أثناء إجراء العدد، وغيرها.
وأكدت لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة، والمنبثقة عن الفصائل الوطنية والإسلامية، في بياناتها، أن خطوات (التمرد والعصيان)، الراهنة والمتدحرجة، ستتوَّج بالشروع في الإضراب الجماعي عن الطعام في الأول من شهر رمضان والذي يصادف في الثالث والعشرين من شهر آذار/مارس الجاري، تحت شعار "الحرية أو الشهادة"، ما لم تلتزم إدارة السجون بالتفاهمات السابقة، وما لم يتراجع "بن غفير" وحكومة اليمين المتطرف عن إجراءاتهم وقراراتهم الأخيرة التي تؤذيهم وتمسّ تفاصيل حياتهم، وتسيء إليهم وإلى قضيتهم، وهو ما يعني أن كافة السيناريوهات واردة، والكرة في الملعب الإسرائيلي.
ويُذكر أنه مع اندلاع هبّة القدس في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015، وعلى الرغم مما تحقق عقب إضراب 2012، فإن ظروف الاعتقال لم تكن هي الأفضل، وأن الأوضاع داخل السجون كانت غير مُرضية بالنسبة إلى الأسرى، ومع ذلك، ومنذ اندلاعها، صعّدت إدارة السجون الإسرائيلية قمعها وإجراءاتها التعسفية بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، فجاء إضراب 2017 رداً على ذلك، إلاّ إن إدارة السجون الإسرائيلية عادت وصعّدت وتيرة القمع والانتقام وإجراءات التضييق في أعقاب نجاح ستة أسرى في الهروب من سجن "جلبوع"، الذي يُعتبر الأكثر تحصيناً والأشد حراسةً، وذلك في السادس من أيلول/سبتمبر 2021، عبر نفق حفروه في باطن الأرض، في محاولة منها لاستعادة هيبتها وترميم صورتها ومحو آثار الهزيمة المُذلة التي لحقت بها.
إن الإدراك المبكر للواقع وتداعياته، سهّل على الأسرى الفلسطينيين الوصول إلى مستوى فهم معين في الوقت المناسب، وجعلهم أكثر قدرةً على ترتيب أوراقهم وتنظيم أمورهم الداخلية ورص صفوفهم وتمتين علاقاتهم وتوحيد جهودهم، واتخاذ القرارات المصيرية؛ على قاعدة التحدي ومواجهة السجّان ومرجعياته، ذوداً عن كرامة الأسير الفلسطيني، ودفاعاً عن حقوقه الأساسية، وحفاظاً على رمزيته النضالية ومكانته القانونية، وما يمثله في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، ولدى أحرار العالم.
وبناءً على ذلك، تولّدت لدى الأسرى قناعة بضرورة المقاومة، وبمرور الوقت وتصاعُد الصراع مع السجّان، من ناحية، وتراكُم الخبرات والتجارب لدى مجموع الأسرى، من ناحية أُخرى، ترسخت لديهم فلسفة المواجهة خلف القضبان، وهكذا غدت السجون ساحة أُخرى من ساحات الاشتباك والمواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي؛ وتتكرر احتجاجات الأسرى بين حين وآخر، مع اختلاف الأدوات، بينما خاض الأسرى معارك الإضراب عن الطعام مرات كثيرة، ونجحوا في فرض إرادتهم وانتزاع بعض حقوقهم وتحسين أوضاعهم وخلق ظروف اعتقالية أفضل، ولا شك في أن ذلك ما كان ليتحقق لهم إلا ببذل الكثير من التضحيات الجسام.
ويبقى من حق الأسرى اللجوء إلى كافة الخيارات والأدوات النضالية المشروعة في مواجهة ظُلم السجّان الإسرائيلي، كالاحتجاج والتمرد والعصيان، بالإضافة إلى خوض الإضراب المفتوح عن الطعام؛ متسلحين بعدالة قضيتهم وواقعية مطالبهم وصلابة إرادتهم ووحدتهم وثبات مواقفهم ومساندة شعبهم ووقوف أحرار العالم إلى جانبهم ودعم وسائل الإعلام لمشروعية نضالهم.
عن المؤلف:
عبد الناصر فروانة: أسير محرر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.