بقلم: تيسير خالد
أصدرت وزارة الداخلية الروسية، يوم الجمعة الماضي، مذكرة توقيف بحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، وذلك ردا على إصدار تلك المحكمة ، التي لا تعترف روسيا ، كما الولايات المتحدة الاميركية ودولة الاحتلال الاسرائيلي بولايتها القضائية، في آذار الماضي مذكرة باعتقال كل من الرئيس بوتين ومفوضة حقوق الأطفال في روسيا ماريا لفوفا بيلوفا، لاتهامهما بارتكاب جرائم حرب بترحيل أطفال من أوكرانيا إلى روسيا.
في حينه رفضت موسكو مذكرة الاعتقال تلك، قائلة إن مذكرة المحكمة لا معنى لها بالنسبة لروسيا الاتحادية، من وجهة النظر القانونية، فروسيا حسب المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا روسيا ليست عضوا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولا تتحمل أي التزامات نحوها وأنها لن تتعاون مع هذه الهيئة الدولية، وستكون المذكرات المحتملة للاعتقال في حال صدورها باطلة من الناحية القانونية . ولم تكتفي جهات الاختصاص الروسية بذلك ، بل هي ذهبت أبعد من ذلك وقررت بعد ذلك بأيام فتح قضية ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية ، انتهت بمذكرة توقيف ضد المدعي العام للمحكمة السيد كريم خان.
الولايات المتحدة الأميركية رحبت دون تردد وبسرعة بقرار المحكمة الجنائية الدولية، فجريمة الحرب واضحة وفظيعة، خاصة وأنها تتعلق بترحيل أطفال من مناطق المعارك والخطر في الدونباس الى داخل الأراضي الروسية، ربما لحمايتهم من أخطار المعارك، التي تدور بين الجيشين الروسي والأوكراني في المنطقة . وذهب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في رده على سؤال في حينه من السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكي، بعيدا عندما دعا كل دولة أوروبية عضوا في المحكمة الجنائية الدولية الى الاستعداد لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،
قليل الحركة والزيارات الخارجية، إذا ما أخطأ في تقديراته لخطورة الأمر وغامر وقرر القيام بزيارة لأي من تلك الدول الاوروبية، فكما هو معروف فإن الرجل نادرا ما غادر روسيا في السنوات الأخيرة، وهو لم يسافر مثلا إلى الولايات المتحدة منذ عام 2015.
وبالعودة قليلا الى الوراء، الى موقف الولايات المتحدة الأميركية من المحكمة الجنائية الدولية، تجدر الإشارة الى الإجراء ، الذي أعلنت عنه إدارة ترامب ضد المحكمة الجنائية الدولية لعرقلة العدالة، عندما يتعلق الأمر بضحايا الجرائم الجسيمة، التي ارتكبتها القوات الاميركية في كل من العراق وأفغانستان ، او الجرائم اليومية الجسيمة ، التي ترتكبها قوات الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين. فالجميع يذكر ذلك الأمر التنفيذي ، الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب في في الحادي عشر من حزيران عام 2020 ، والذي يجيز تجميد الأصول وحظر السفر ، حتى العائلي ، ضد موظفي المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن اولئك الذين يُساعدون في تحقيقاتها بتلك الجرائم . وقد كان ذلك الأمر التنفيذي ، حسب العديد من المنظمات القانونية الدولية ، اعتداءا على سيادة القانون والعدالة الدولية في آن . وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو ، ذهب أبعد مما ذهب اليه انتوني بلينكن ، وزير الخارجية الأميركي اللاحق ، حين توعد بعواقب وخيمة إذا استمرت المحكمة الجنائية الدولية في مسارها الحالي ، حسب تعبيره ، وقررت التحقيق جرائم الحرب، التي تركبها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 في فلسطين ، ما وضع الولايات المتحدة الاميركية في صف الذين يرتكبون ويتسترون على الانتهاكات الجسيمة، وليس إلى جانب الذين يحاكمونها، حسب تقدير منظمة هيومان رايتس ووتش وعودة كذلك الى قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، السيد كريم خان، بشأن روسيا، وما ينطوي عليه القرار من ازدواجية معايير مخجلة ، تجدر الإشارة الى أن دولة فلسطين كان قد أودعت في الثاني من كانون الثاني 2015 نسخة من وثيقة انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة ، ما يعني منح المحكمة اختصاصا قضائيا على الجرائم الخطيرة التي تنتهك القانون الدولي ، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد الأطفال المرتكبة على الأراضي الفلسطينية . إسرائيل طبعا ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية ، كما هو حال الولايات المتحدة الاميركية وروسيا الاتحادية ودول أخرى، غير أن ذلك شيء والسعي لتحقيق العدالة الدولية في أمر جرائم الحرب شيء آخر.
لم تكتف فلسطين بتقديم وثيقة انضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة ، بل تابعت جهودها الى أن أثمرت في شباط من العام 2021 بتأكيد الدائرة التمهيدية الاولى في المحكمة الجنائية الدولية بأن نطاق اختصاص المحكمة الإقليمي يشمل جميع اراضي الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة في إشارة واضحة الى الوحدة الاقليمية لهذه الاراضي ، الأمر الذي يعني بوضوح بأن تصنيفات الاراضي كما وردت في الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ( ا ، ب ، ج ) لا أهمية لها من وجهة نظر القانون الدولي . وقد جاء قرار الدائرة التمهيدية الاولى للمحكمة يمثل انتصارا للحق والعدالة وللقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ويعيد الامور الى نصابها ويعطي للمحكمة مصداقيتها بعد سلسلة التهديدات وأعمال البلطجة والعقوبات ، التي تعرضت لها على أيدي الإدارة البائدة للرئيس الاميركي السابق دونالد .
ذلك فتح نافذة أمل بأن الوقت قد حان للبدء بالترتيبات ، التي تسمح بمساءلة ومحاسبة جميع الاشخاص الطبيعيين في دولة الاحتلال (عسكريين أو مدنيين) على جميع الجرائم المنصوص عليها في المادة (5) من نظام روما كجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية و جرائم العدوان وهدم منازل ومنشآت الفلسطينيين وجرائم التمييز العنصري والترانسفير والتطهير العرقي وكل ما من من شأنه أن يشكل رادعا لقادة الاحتلال ويمنعهم من الاستمرار في جرائمهم ضد المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال.
غير ان نافذة الأمل هذه جرى غلقها منذ ان تولى السيد كريم خان مهمته مدعيا عاما للمحكمة ، خلفا للسيدة فاتو بنسودا ، في السادس عشر من حزيران 2021 . ولم يكن ذلك مستغربا خاصة وان كريم خان هبط على المحكمة بمظلة أميركية – بريطانية بمهمة سياسية وظيفتها تسييس عمل المحكمة . ومعروف أن المدعي العام الجديد للمحكمة صاحب سجل غير نظيف على هذا الصعيد . أليس هو وليس غيره من تولى الدفاع عن قائمة من مجرمي الحرب في افريقيا . كرئيس ليبيريا السابق ، الدكتاتور تشارلز تايلور الذي دانته المحكمة الخاصة لسيراليون بالسجن 50 عاما بتهمة ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية ودافع عن عدد من القياديين في حركات تمرد في دارفور متهمين بارتكاب جرائم حرب في هجوم مسلح على قاعدة بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في العام 2007 ، أودى بحياة 12 عنصرا من البعثة وعن وليام روتو النائب السابق للرئيس كينيا الذي نجح خان بإسقاط التهم الموجهة ضده والمتعلقة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وعن جان بيير بيمبا ،
نائب الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية المتهم بجرائم حرب ارتكبها جنوده في إفريقيا الوسطى وآخرين غيرهم.
كريم خان هذا، الذي أصدر في آذار الماضي مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي ، يواصل تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني وقرار الدائرة التمهيدية للمحكمة بشأن انطباق ولايتها القانونية على فلسطين ، هو صاحب سجل غير نظيف ، وهو سجل دفع في حينه 22 منظمة حقوقية أفريقية ، معظمها من كينيا وأوغندا وتنزانيا، لتوجيه رسالةً للدول الأعضاء في المحكمة تدعوها الى عدم انتخابه لهذا المنصب الرفيع.
أخيرا ، لست هنا في معرض الدفاع عن أحد ، فروسيا الاتحادية دولة قوية وعظيمة وهي تتكفل الدفاع عن مواطنيها بمن فيهم رئيسها فلادي مير بوتين. غير ان ذلك لا يمنعني من الإشادة بشجاعة وزارة الداخلية الروسية وبمذكرة التوقيف بحق كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ففي ذلك رسالة سياسية واضحة يجدر بالسيد كريم خان أن يقدر عواقبها، بعد أن تمادى في تسييس عمل محكمة كان الشعب الفلسطيني وما زال يعقد آمالا عليها.