بقلم: عبد الناصر عوني فروانة
كثيرون من الناس يظنون أن معاناة السجن وتأثير الاعتقال يقتصران على الأسير نفسه؛ فتجدهم يتضامنون مع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي ويساندونهم ويدعمونهم، ولا يلتفتون إلى مَنْ يعانون جراء الاعتقال من دون أن يكونوا أسرى.
على الصعيد الشخصي، عشت تجربة أسرية مريرة مع الاعتقال والسجن على مدار أعوام طويلة، وقرأت حكايات وتجارب كثيرة وثقتها أقلام المعتقلين، وتناقلتها ألسن المحررين، واستمعت إلى قصص أُخرى من المعاناة روتها أسر وعائلات فلسطينية تعرّض واحد من أفرادها أو أكثر للاعتقال، واطلعت على بعض مما كتبه الباحثون والمختصون، فأدركت أن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ليسوا وحدهم ضحايا الاعتقال، بل أيضاً أسرهم وعائلاتهم هم ضحايا مثلهم. وأن آثار السجن والاعتقال تمتد إلى خارج الأسوار فتشمل الدوائر الاجتماعية، وتطال الأسرة والعائلة، وتمتد إلى الجيران والأصدقاء وزملاء العمل، وتصل إلى العاملين في مجال الدفاع عن القضية، فتسبب لهم الكثير من المشكلات الاجتماعية والصحية والنفسية والاقتصادية، وتلحق الأذى والضرر، وأحياناً الخراب والدمار، بالفرد والجماعة والمؤسسة، وتعيق تطور الإنسان والمجتمع الفلسطيني.
فدولة الاحتلال الإسرائيلي، منذ قيامها سنة 1948، تعتبر الأمن أساس وجودها، وتؤمن أيضاً بأن الأمن كفيل بديمومة احتلالها للأراضي الفلسطينية – على حد زعمها - وقد خيم على عقول قادتها أن التخلص من الآخر، أو على الأقل ردعه واعتقاله وسلب حريته، هو الوسيلة الأفضل والأكثر ضمانة لتحقيق أمنها، والحفاظ على وجودها، واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية، من دون أن تولي - في تطبيقها لنظريتها الأمنية - أي اهتمام لكرامة الإنسان الفلسطيني وحقوقه.
وفي سياق تحقيقها ذلك المراد، اعتمدت الاعتقال نهجاً منظماً، وممارسة مؤسساتية، ووسيلة للقمع والقهر وبث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين، بهدف كبح إرادتهم، وتدمير العقيدة، أو القضية، التي تحفز الفلسطيني وتدفعه إلى الكفاح والمقاومة في إطار سياسة ثابتة، ولا سيما بعد احتلالها بقية الأراضي الفلسطينية في 5 حزيران/يونيو 1967، حتى أضحت الاعتقالات جزءاً أساسياً لا يتجزأ من فلسفة الاحتلال، وسلوكه اليومي في التعامل مع الفلسطينيين، ومنهجيته للسيطرة على الشعب الفلسطيني.
ومن خلال ما نرى ونسمع، أو ما نتابع ونوثق، أصبحت الاعتقالات الإسرائيلية جزءاً من الحياة اليومية للفلسطينيين، والسيرة الذاتية لكل فلسطيني، فلا يمر يوم واحد إلاّ وتسجَّل فيه اعتقالات تطال فئات المجتمع الفلسطيني وشرائحه كافة، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً. ويزداد قلق الأهالي في حال اعتقال الأطفال والفتيات القُصّر، أو الأمهات والآباء كبار السن والمرضى.
وفي هذا السياق، لا بد من تبيان ما يعانيه الأب جراء الشعور بالضعف والعجز الذي ينتابه حين اعتقال طفله أو طفلته القاصر، كذلك الرجل والشخص البالغ الراشد حين اعتقال الأب والأم، أو الأخت والزوجة، وما يشاهده الصغار والكبار من إهانة وإذلال لحظة الاعتقال، وما يتعرضون له من صدمات، وما يسمعون عن حدوثه في أروقة التحقيق وبين جدران السجون من تعذيب وسوء المعاملة، فيتأثر الجميع، بدرجات متفاوتة، وقد يؤثر ذلك لاحقاً في العلاقات الأسرية من ناحية، وقد يخدش أيضاً طبيعة الصورة النمطية للأب وشكلها في ذهن أطفاله.
عقاب جماعي وإجراءات انتقامية بحق أهالي الأسرى
لقد رأت سلطات الاحتلال أن جسد الأسير المعذَّب في حالته الفردية يمتد إلى الجسد الفلسطيني العام، لذا كثيراً ما لجأت إلى معاقبة أهالي الأسرى والانتقام منهم، وتعمُّد اتخاذ إجراءات من شأنها أن تفاقم معاناتهم، وتزيد حالة القلق والاكتئاب لديهم، وتُلحق الضرر والأذى الجسدي والنفسي والمادي بهم، فتعتقل الأب والزوج، أو الأم والأخت والزوجة، للضغط على المعتقل. بالإضافة إلى سرقة أموال ومجوهرات، أحياناً، في أثناء المداهمات والاعتقالات، وهدم أو إغلاق وتدمير محتويات بيوت المعتقلين وتشريد عائلاتهم، ومنع أفراد أسرهم من السفر، ووضع العراقيل أمام حركتهم وتنقلهم عبر المعابر والحواجز المنتشرة، والملاحقة المستمرة لهم، وأحياناً يفقدون فرص العمل، أو المقدرة على مواصلة التعليم والعلاج، وعدم انتظام زيارات الأهالي وإلغائها أحياناً تحت ذرائع متعددة، من دون توفير آليات بديلة أو السماح باللجوء إلى الوسائل الحديثة للتواصل الإنساني في الأعياد والمناسبات. فهناك آلاف من ذوي القرابة الأولى محرومون من رؤية أحبتهم بحجج واهية، وغالباً ما يكون بذريعة "المنع الأمني"، الأمر الذي يمثل معاناة مركبة تثقل كاهل الأسرى وأقاربهم في آن، وتشكل ضربة نفسية قاسية لكلا الطرفين. كما تشكل الزيارة، لمن يُسمح لهم بذلك، رحلة شاقة من المعاناة، نظراً إلى بُعد مواقع السجون الإسرائيلية وأماكن الاحتجاز عن مكان إقامة الأهالي، وما يتخللها من إجراءات تعسفية وأحياناً اعتداءات جسدية ولفظية.
وخلال السنوات الأخيرة، صعّدت سلطات الاحتلال من سياسة "الحبس المنزلي"، التي حولّت مئات البيوت الفلسطينية إلى سجون، وجعلت أفراد العائلة، وتحديداً في القدس، سجانين ومراقبين على أطفالهم الذين يضطرون إلى منعهم من مغادرة البيت لأي سبب كان تنفيذاً لقرار المحاكم الإسرائيلية، الأمر الذي يفاقم معاناة الأسرة، ويحدث خللاً في طبيعة العلاقة بين الطفل وأهله، ويخلق العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية لدى الطرفين.[1]
علاوة على هذا، لجأت سلطات الاحتلال إلى فرض غرامات مالية باهظة بحق بعض المعتقلين، وخصوصاً الأطفال، بل نكاد نجزم هنا بأن جميع الأحكام التي صدرت بحق الأطفال تكون مقرونة بفرض غرامة مالية، وهو ما يشكل عبئاً اقتصادياً على الأهل الذين يضطرون إلى دفعها، ولا سيما إذا ما تعلق الأمر بالأطفال، حرصاً على أبنائهم القُصّر، وتجنباً لاستمرار بقائهم في السجن.[2]
اعتقال الأب أو الأم أو كليهما
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من ثلث الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هم من المتزوجين، وهذا يؤثر بدوره في واقع أفراد الأسرة ومستقبلهم وطبيعة العلاقات الأسرية، ويضع زوجة الأسير أمام تحديات إضافية، فتضطر إلى أن تقوم بدور الأب والأم معاً. ولا شك في أن سنوات الأسر الطويلة تؤثر سلباً، بدرجات متفاوتة، في طبيعة العلاقات الأسرية، بين الزوج والزوجة، أو بين الأبناء والأب، وخصوصاً إذا ما امتدت فترة السجن لسنوات وعقود، أو توقفت زيارات الأهالي، واستمر منع الأطفال، تحديداً، من زيارة آبائهم لفترات طويلة.
وروى لي أسير من غزة (ن.ح) أنه خرج ذات مرة إلى زيارة الأهل بعد انقطاع استمر لأكثر من 6 أعوام، ودخل غرفة الزيارات، وجلس على المقعد بانتظار زوجته ومن سُمح لهم من الأبناء، فإذ بطفلة بعمر 14 عاماً تسبق الكل وتجلس أمامه في الجهة المقابلة؛ فلم يتعرف عليها، ووجّه إليها سؤالاً صادماً: "إنت بنت مين يا عمو علشان أتعرف عليك؟" هذا المشهد تكرر مع كثيرين من الأسرى القدامى.
وفي مرات متكررة ترى الأم هي الأسيرة، وفي حالات أُخرى تجد الأب والأم بين جدران السجون، فتزداد معاناة الأبناء وجعاً، ويتسع الاختلال في نظام العائلة، فلا يمكن للأسرة أن تؤدي جميع وظائفها بصورة طبيعية في حالة اعتقال الأب أو الأم أو كليهما.
وهنا لا بد من الإشارة إلى عذاب "الاعتقال الإداري" الذي لا يقتصر على الأسير فحسب، بل يطال أفراد عائلته أيضاً، حيث الترقب والانتظار، ثم صدمة تمديد فترة الاعتقال من دون تهمة أو محاكمة. وحتى إن أُفرج عن المعتقل، وقُدّر له أن ينعم بالحرية النسبية، فتجده يعيش بقلق وترقب وانتظار موعد الاعتقال المقبل.
إرهاب الجيران واعتقال الأصدقاء
إن الاعتقال من البيت ليلاً هو الأكثر شيوعاً بين أشكال الاعتقال، حيث المداهمات لقوات كبيرة من جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، واقتحام البيوت، وخلق أجواء من الرهبة والخوف والرعب، لا لدى الشخص المراد اعتقاله أو في نفوس أفراد الأسرة فحسب، بل أيضاً في أوساط الجيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى إصابة بعض الأطفال بصدمات نفسية. وفي أحيان كثيرة جرى اعتقال أفراد من الجيران والأصدقاء للحصول على معلومات تتعلق بالشخص المستهدف.
تلازم بين الاعتقال والتعذيب
ولعل الخطورة تكمن أيضاً في ذاك التلازم الخطر بين الاعتقال والتعذيب، إذ تؤكد جميع الشهادات أن كل من مرّ بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، كان قد تعرّض للتعذيب الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي والمعاملة القاسية. كذلك تؤكد الوقائع أن سلطات الاحتلال تلجأ إلى الاعتقالات بمعزل تام عن قواعد القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتصر دوماً على معاملتهم وفقاً لقوانينها الجائرة، وإجراءاتها العسكرية والأمنية، ورؤيتها السياسية، بعيداً عن الاتفاقيات والمواثيق الدولية، الأمر الذي ينعكس سلباً على ظروف احتجازهم وطريقة معاملتهم.
الاعتقال وتأثيره في المؤسسات الفلسطينية
إن الأغلبية العظمى من المؤسسات الفلسطينية الحكومية والأهلية، التعليمية والصحية والدينية والثقافية والإعلامية والحقوقية والأكاديمية..إلخ، تأثرت سلباً، وبنسب متفاوتة، جراء اقتحامها والعبث بمحتوياتها بذريعة عمليات البحث والاعتقال، أو بسبب غياب كادرها وموظفيها بفعل السجن.
كما أن ضخامة عدد المعتقلين الفلسطينيين، وما يلحق بهم وبأسرهم من دمار وأضرار متعددة، واحتجاز بعضهم لعشرات السنين، يلقي أعباء كثيرة ومسؤولية كبيرة جداً على السلطة الوطنية الفلسطينية وهيئة شؤون الأسرى والمحررين باعتبارها المؤسسة الرسمية والحاضنة الأساسية، وكذلك على المجتمع الفلسطيني، بمختلف فصائله الوطنية والإسلامية ومؤسساته المجتمعية، من حيث متابعة أوضاعهم وملفاتهم المتعددة، والقيام بالواجب الوطني والديني والإنساني تجاههم وتجاه أسرهم، واحتضان المحررين منهم، وتقديم كل أشكال الدعم لهم ولعائلاتهم، وضمان توفير مستوى لائق من الحياة الكريمة، وهذه بالمناسبة ليست مسؤولية المجتمع الفلسطيني فحسب، بل أيضاً مسؤولية وطنية وقومية ودولية، باعتبارهم مناضلين من أجل الحرية، وضحايا للاحتلال والإرهاب الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، فإن الاعتقال لم يقتصر على الفلسطينيين الأحياء، بل شمل الشهداء منهم، فقد جعلت دولة الاحتلال من مقابر الأرقام وثلاجات الموتى سجوناً للفلسطينيين بعد موتهم بهدف الانتقام منهم ومعاقبة ذويهم وإيلامهم، والسعي لردع الأحياء من بعدهم، في واحدة من أبشع الجرائم التي تقترفها علانية. ولا تزال سلطات الاحتلال تحجز أكثر من 370 جثماناً لشهداء فلسطينيين وعرب، بعضهم مضى على احتجازه سنوات طويلة، بينهم 11 جثماناً لفلسطينيين استشهدوا داخل السجون الإسرائيلية.[3]
في الختام، وعلى الرغم مما ذكرناه أعلاه -وهذا غيض من فيض-فإن الاعتقال وما يترتب عليه، كان سبباً في زيادة الكراهية للاحتلال، ونمو شعور الرغبة في الانتقام لدى كثيرين من الفلسطينيين. كذلك لم يكسر السجن إرادة الفلسطينيين الذين حافظوا على تمسكهم بانتمائهم الوطني وهويتهم الفلسطينية وتشبثهم بأرضهم وقضيتهم، ولن يوقف مسيرتهم الكفاحية في الدفاع عن حقوقهم وسعيهم لانتزاع حريتهم وتحقيق أهدافهم المشروعة. فكثيرون ممن مرّوا بتجربة الاعتقال يتفاخرون وهم يعددون عدد مرات اعتقالهم والسنوات التي أمضوها خلف القضبان وما حققوه خلال فترة سجنهم، كما أن العائلات الفلسطينية تتباهى هي الأُخرى بأبنائها ومسيرتهم النضالية، كامتداد طبيعي وجزء أصيل من المجتمع الفلسطيني الذي لا يزال، وسيبقى، يُقدّر عالياً نضال الأسرى والمعتقلين وتضحياتهم، وما قدموه من أجل فلسطين وشعبها، ومساهماتهم الكبيرة ودورهم الفاعل في تعزيز الثقافة الوطنية والرواية الفلسطينية.
عن المؤلف:
عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى والمحررين، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.