بقلم: إسراء البلعاوي
تحت صهد شمس الظهيرة، أجلس لالتقاط أنفاسي أمام خيمة يسميها سكان قطاع غزة بـ"خيمة القبة"، تخص هذه الخيمة شقيقتي التي تقيم هنا منذ نزحت حين اجتيحت قلعة الجنوب "رفح" قبل نحو العام، وقد جاء اجتياح المدينة كجزء من الغزو البري خلال الحرب الإسرائيلية التي اندلعت ضد غزة في السابع من أكتوبر\تشرين الأول عام 2023.
قدمتُ إلى مواصى خانيونس وتحديدا إلى شارع الاسطبل من مخيم الشاطئ الواقع غرب غزة، ورغم أن مشواري المقدر بنحو 30 كيلو متر من المسافة استغرق ثلاث ساعات من الزمن، وصفت بـ"المحظوظة" لكون الطريق الذي استخدمت فيه سيارة أجرة تعرضت لقصف وعربة كارو و"توكتوك" استغرق وقتا أطول مع آخرين.
خلال مشواري هذا، استمعت لمذياع السيارة المهشمة وفيه خبرا يفيد بـأن "75% من سكان غزة بالكاد يستطيعون تأمين وجبة غذاء واحدة لعائلاتهم"، وبينما أواصل الاستماع لمزيد من الأخبار التي تخص الحرب انشغل نظري بمشهد بات مألوف منذ بدأ النزوح في هذه الحرب، مئات الآلاف من النازحين على أراض مترامية الأطراف غربي غزة، الصرف الصحي يغرق الفراغات القليلة بين خيامهم، وتجمعات القمامة في كل ركن من أركان المخيمات، بينما على أطرافها تتناثر "فرش" تجارية تملأ بالمعلبات الصدأة من فول وحمص وفاصوليا وبازيلاء.
في المحصلة، وصلت لتفقد حال شقيقتي، فأخذت صغيراتها تحتفي بي، فأنا الوجه الوحيد الذي رأينه من الأقارب منذ عاد أهل الشمال إلى ديارهم في نهاية يناير\كانون الثاني المنصرم، حيث لا تسمح الطرقات الصعبة غالبا بزيارة أهل الجنوب لعوائلهم في الشمال أو العكس.
أتناول كوب من الماء، وأنا أنظر لوجه أختي الذي يرتسم بالحيرة حول أمر اطعامي في هذه الزيارة، فلا تكية تجلب منها الطعام ولا مخبزا يبيع الخبز ولا جمعية تفقدت حالها بطرد غذائي، لكني أقطع حيرتها بالقول بإني في عجلة من أمري وسأعود قبل أن تحل "العصرية"، فتقضم المواصلات وقتي وأصل في العتمة.
أعود بذاكرتي إلى الوراء، إلى يوم تركت جنوب قطاع غزة في يناير\كانون الأول الماضي وعدت إلى الشمال، بعد ما يقارب العام والنصف من النزوح والحرب والجوع والقتل، دار بخلدي أن كل شيء سينتهي بمجرد أن نحط رحالنا في بيوتنا أو على أنقاضها داخل خيام جديدة، فقد عهدت هذا بعد كل عدوانا يقع علينا.
في ذلك الحين، وصلنا المدينة وأحيائها المدمرة فرحين، لكن سرعان ما بدأ "الثلج يذوب و المرج يبان" كما يقول "الشوام" وذهبت الفرحة سدى، فلم يكن ما رأيناه يشبه ما وصفه لنا الأقارب والجيران الذي حوصروا في الشمال، ولا يشبه الصور الملتقطة من الهواتف المحمولة للنشطاء الإعلاميين، فقدت المدينة كل شيء، لا طريقا نمر به ولا بيت تسنده أعمدة، ولا حتى حبة دواء لمريضنا أو خيطا معقما يقطب به جرح نازف.
خلال الأيام الفاصلة بين وقف الحرب واستئنافها، حاولنا التكالب على الخيبة والضياع والجوع، نفرح إذ تلقينا رسالة تخبرنا بوصول طرد غذائي ولا نعبأ كثيرا بمشوار شاق للحصول عليها، سعدنا بتذوق طعم الدجاج وبيضه واللحم الأحمر المجمد وتعرف الكثير من أطفالنا على مذاق الفاكهة لأول مرة.
على أيه حال، لم تكن تلك الأيام جيدة بالقدر الذي سبق ووصفته، فالترهيب المستمر من عودة الحرب كان ينغص علينا "اللقمة" التي عادت تُوضع بأفواهنا، و"الفرحة" التي كنا نعيش عندما نجلس مع أحبتنا الذين حوصوا في الشمال أو السعادة التي كانت تغمرنا عندما نرتدي ثوبا قديما وجدناه بين أنقاض البيوت.
في الحقيقة، كنا نكره الأصوات التي تطلبنا بتخزين المعلبات والطحين، نعاملها معاملة "نذير شؤم" بأن الجوع والحرب سيعودان إلينا، لكنهما عادا بالفعل بين ليلة وضحاها، عودة كادت ان توقف قلوب جميعا كما حدث مع زميلتي هيا مرتجي – رحمها الله- الذي توقف قلبها من شدة القصف وتركت خلفها يتيمين من الأطفال.
عادت الحرب في الثامن عشر من مارس\آذار الماضي، وعاد معها الجوع وأغلقت المعابر والمخابز وشح الدقيق في البيوت، وأصبحت أسمى أمانينا أن تأتي عربة مياه الشرب إلى قلب الحي الذي نسكن.
حين تأتي هذه العربة مرة في الأسبوع، يقطع صوت مولدها الصمت المطبق الذي نعيشه، حيث يسارع العطشى لجلب آنيتهم البالية للتعبئة، وبينما الخلاف يعم حول الاسبقية لمن في دور التعبئة، لا يكترث قائدون العربة بالحال، فكل ما يهمهم التقاط عشرات الصور للمشهد المزدحم بخلفية تحمل يافطة تحتوى على اسم المتبرع ودولته.
خلال أقل من ساعة ينتهي هذا الحال، تذهب عربة المياه، ويعود رجال الحي للجلوس على الطرقات، وأكثر ما يشغلهم هو أزمة الدقيق، فجلهم ذو عائلات جائعة، تارة يلومون أنفسهم على تذمرهم الفائت من الوقوف في طابور طويل على أبواب المخابز، وتارة يعاتبون بعضهم على تفويت فرصة الحصول على كيس الدقيق الطارئ الذي منحتهم وكالة الأونروا وكان ثمن المواصلات للحصول عليه يفوق قيمته المالية.
أما داخل البيوت المتضررة والخيام، نتبادل نحن النسوة حديثا مقاربا، يخص تجارب طهو أصناف الطعام الأكثر اشباعا والمستغنى فيها عن الخبز، واحدة تتحدث عن طعام خليط من العدس الاصفر والأرز، وأخرى عن تحويل البرغل إلى "أكلة مفتول".
في مشواري للبحث عن طعام، عليه أن أخرج من منزلي المتضرر من القصف، لتجاوز المسافة نحو السوق مشيا على الاقدام، ورغم أن هذه المسافة قصيرة بمقياس الجغرافيا، لكنها ثقيلة بمقياس الألم، أخطو بصعوبة بسبب الركام الهائل من حولي، تارة أنظر إلى الأرض كي لا أسقط على وجهي، وتارة إلى الأعلى أهاب أن يسقط على رأسي شيئا من الركام العالق المصنف كخطر شديد.
الصباح الذي أخرج فيه ليس هادئا كما هو متوقع، بين الأزقة تجد السكان والنازحين مشغولون للغاية، أحدهم يهشم الخشب كي يصنع كوبا من الشاي خاليا من السكر، الذي وصل سعره لمستو خيالي، وسيدة تقيد فرنا طينا لخبز دقيقا مخلطا بالمعكرونة، كي تسد رمق جياع يلتفون حولها، وثالث يصرخ بأعلى صوته "مياه صاقعة" حيث يضع نصف لترا من الماء في كيس شفافا تظهر عليه قطرات خجولة تدلل على أنه وضع في ثلاجة وُصلت على مشروع طاقة شمسية.
أمشي مثقلة نفسيا، فقد كانت ليلتي قلقة للغاية، قضيتها أتواصل عبر الرسائل القصيرة مع شقيقتي التي تقيم في دير البلح، أحاول أن اطمئنها، فالقصف والطيران الحربي من حولها زادت جرعته الليلة الفائتة.
وفيما أواصل المشي نحو وجهتي، أتذكر مجازر الأمس، كان المشهد موجعا للغاية، لكن يقطع ذاكرتي مروري من أمام "فرش" الخضار المعدودة، فلا أرى سوى ثلاث أصناف تكاد لا تجد غيرها في القطاع، البندورة والفلفل وبعضا من الخضروات الورقية، أصنافا خرجت بأعجوبة من أرض زراعية بعيدة عن آلة الحرب الإسرائيلية التي دمرت حقول غزة الخضراء.
في الحقيقية، أصبحت أكره السؤال عن الأسعار، انتظر أن يسأل أحد المارة عن سعر البندورة بالأخص، لكن الجميع يمر ولا يسأل، أتجرأ واختار حبيتين متوسطي الحجم ثم أضعهما على الميزان، ليتحرك البائع ويزنهما ثم يلفظ بالسعر ناظرا في وجهي للإيحاء بالقبول.
فعلتها مضطرة لإطعام أهلي، يضع البائع الحبيتين ويقبض الثمن، ثم كالعادة يخبرني أن النقود تالفة من وجهة نظره، وعليه أن أبدلها أو اختار إرجاع البندورة، وأنا مضطرة لإنهاء الجدل حول صلاحية النقود كما تعلن وزارة النقد دوما، فعليه العودة للبيت لأطهو ما حصلت عليه، كون مهمة شاقة تنتظرني تتعلق بإشعال الحطب من أجل طهي البندورة المخلوطة بالماء ورب البندورة، حيث أتحايل كغيري في غزة على الطعام لزيادة مقدراه.