بقلم: فؤاد بكر
قاضي في المحكمة الدولية للنزاعات
■أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية في 06 أيار 2021، قراراً بإخلاء منازل مملوكة من الفلسطينيين في "حيّ الشيخ جراح" في القدس المحتلة، وما رافقه من إعتقالات عشوائية طالت العديد من الأطفال الفلسطينيين أثناء تنفيذ حكم المحكمة، وذلك بهدف توسيع الرقعة الإستيطانية غير الشرعية وتهويد القدس المحتلة. ولم يكن هذا القرار الأول والأخير، بل أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية العديد من القرارات الهادفة إلى إخلاء منازل الفلسطينيين من قبل.
فقد إبتدأت قضية "الشيخ جراح" منذ عام 1956، في ظل الحكم الأردني على الضفة الغربية، عندما إنتقلت 28 عائلة لاجئة إلى "حي الشيخ جراح"، بعد أن فقدت منازلها أثناء النكبة عام 1948، حيث عقدت عام 1956 وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية، مع وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" على توفير مساكن لها بحي الشيخ جراح، فوفرت الحكومة الأردنية على الأرض، وتبرعت وكالة الغوث (الأونروا) تكاليف إنشاء 28 منزلا، وكان من أهم شروط هذا الإتفاق، قيام السكان بدفع أجرة رمزية ليتم تفويض الملكية للسكان بعد إنقضاء ثلاث سنوات من إتمام البناء، وبعد حرب حزيران 1967، لم يتابع تفويض الأرض بسبب إحتلال إسرائيل للضفة الغربية.
بدأت معاناة سكان حي الشيخ جراح في العام 1972، عندما إحتجت قطعان المستوطنين من طائفة "السفارديم" اليهودية، ولجنة كنيست إسرائيل (لجنة اليهود الأشكناز)، وإدعاء إمتلاك الأرض التي أقيمت عليها المنازل عام 1885، وفي 1972 طلبت الجمعيتان الإسرائيليتان من المحكمة، أن تخلي (4) عائلات من منازلها، بتهمة الإعتداء على أملاك الغير دون وجه حق، وفي عام 1976 أصدرت المحكمة الإسرائيلية حكما لصالح العائلات الأربع، ونص هذا الحكم أن وجود هذه العائلات على هذه الأرض هو قانوني.
وفي العام 1970، صدر قانون الشؤون القانونية والإدارية في دولة الإحتلال الإسرائيلية، ينص على أن اليهود الذين فقدوا ممتلكاتهم في القدس الشرقية عام 1948 يمكنهم إستردادها، وبالرجوع إلى قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي لعام 1950، لا يسمح للفلسطينيين الذين فقدوا ممتلكاتهم عام 1948 بإستعادتها، وتقوم السلطات الإسرائيلية بنقلها إلى الدولة.
ومن الإشارة أن حكومة الإحتلال الإسرائيلية منحت تعويض لجميع اليهود الذين فقدوا ممتلكاتهم عام 1948، ومنحتهم بديلا عنها في أراضي عام 1948، ويحق لهم مضاعفة التعويض عن الخسارة بموجب قانون الشؤون القانونية والإدارية الإسرائيلي.
تعرض سكان الشيخ جراح في التسعينيات إلى خديعة من قبل محام إسرائيلي وكلوه للدفاع عنهم، ففي العام 1982 تقدمت الجمعيات الإستيطانية الإسرائيلية بدعوى ضد 24 عائلة، وقامت 17 عائلة فلسطينية بتوكيل المحامي الإسرائيلي "توسيا كوهين" للدفاع عنها، وفي العام 1991، إستغل المحامي توكيل العائلات الفلسطينية له، ووقع دون علمها، على ملكية تلك الأرض للجمعيات الإستيطانية، وتم منح أهال الشيخ جراح صفة المستأجرين.
وبعد علمها بهذه الخديعة، قدمت بعض العائلات صكوك الملكية، ووثائق تثبت ملكيتها من الطابو العثماني في تركيا، وتم تقديمها إلى المحكمة المركزية الإسرائيلية عام 1997، إلا أنها رفضت الإعتراف (عام 2005)، بالوثائق المقدمة لها، وفي العام 2006، ردت المحكمة العليا الإسرائيلية الإستئناف المقدم من العائلات.
قامت قوات الإحتلال الإسرائيلية بإغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية عام 2003، الواقع في حي الشيخ جراح، بالإضافة إلى المسرح الوطني، والعديد من مقرات البعثات الدبلوماسية، فهذه البلدة تعد من المعالم الأثرية المهمة، ولها مركز إستراتيجي كبير من الناحية الجغرافية لدولة الإحتلال الإسرائيلية، التي حرصت على تعزيز الوجود اليهودي وإنشاء المستوطنات اليهودية فيها وذلك منذ 1967.
كما سعت دولة الإحتلال الإسرائيلية إلى تحقيق الهدف ذاته عن طريق الحد من أعداد السكان الفلسطينيين، ووضع خطط ممنهجة لتهجيرهم بالقوة، من خلال إعاقة تنمية وتطوير المجتمع الفلسطيني، وتشمل هذه السياسات غير القانونية سياسة الفصل المكاني، كما حصل في قضية الجدار الذي أدانته محكمة العدل الدولية عام 2004، وزرع بؤر إستيطانية في مناطق إستراتيجية داخل الأحياء الفلسطينية، بدعم السيطرة على الممتلكات الفلسطينية والإستيلاء عليها بأساليب متنوعة منها إجبار العائلات الفلسطينية على إخلاء منازلها قسرا، وفي أوقات متأخرة ليلا، بهدف تشريدهم وتجريدهم من منازلهم، لنشر الرعب بينهم.
أقدمت سلطات الإحتلال الإسرائيلية عام 1973 بزرع مستوطنة "جفعات همقتار" في الشيخ جراح على طريق القدس – رام الله، ووصلت سيطرتها إلى(3500) دونما منها، وازداد عدد الوحدات السكنية غير الشرعية إلى(500) لغاية عام 1990، وفي أواسط عام 1990، أصبح هناك (4200) وحدة سكنية إستيطانية غير شرعية، يقطن فيها (13) ألف مستوطن.
إن المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة واحدة من الجرائم المرتكبة كونها جريمة حرب اذ يضمن نظام روما الإنتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف الدولية كما تنص المادة (8/2/ب/8) في تجريم الإحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها أو إبعاد أو نقل كل سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها أو أجزاء من سكانها إلى الأراضي التي تحتلها ونقل السكان الأصليين في المكان القائم عليه المستوطنات، ولذلك عارضت اسرائيل ان يتضمن نظام روما اي نص يعتمد على اتفاقية جنيف الرابعة.
وبناء على القرارات الدولية للأمم المتحدة 242 عام 1976، 338 لعام 1973، 1515 عام 2003، 2334 لعام 2016 الصادر عن مجلس الامن، إضافة للرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص الجدار بالفقرتين 73-74 وإتفاق الدول في اتفاقية جنيف وغيرها من القرارات التي تؤكد احتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية عام 1967، بما فيها القدس الشرقية.
لا بدّ من تفسير مصطلح النقل في المادة 8/2/ب/8 من نظام روما، أنه قد جاء مطلقاً وكقاعدة عامة، فإن المطلق يجري على إطلاقه، كل ذلك يجعل المستوطنات بأساليبها غير مشروعة، على عكس ما يدعي به الطرف الآخر، أو من خلال بيع الاراضي الفلسطينية إلى الإسرائيليين في هذه المادة، وبما أن حكومة إسرائيل قد قامت بنقل مباشر وغير مباشر من خلال التسهيلات القانونية والمادية والإمتيازات التي تمنحها لسكانها الذين يسكنون المستوطنات الإسرائيلية الواقعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يثبت مسؤوليتها الجنائية بدءاً من قانون القومية اليهودية وقانون تنظيم الاستيطان في "اليهودا والسامرة" أي الضفة الفلسطينية رقم 5777 والذي أقره الكنيست الإسرائيلي عام 2016.
لذلك، على المجتمع الدولي التحرك فوراً لوقف سياسة التطهير العرقي التي تنتهجها دولة الإحتلال الإسرائيلية، وعلى السلطة الفلسطينية متابعة ملف الإستيطان المقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لوضع حد للجرائم التي ترتكبها دولة الإحتلال الإسرائيلية بكل أنواعها، الإنسانية التي تتمثل بجريمتي الإضهاد والفصل العنصري (الأبارتهايد)، وجرائم الحرب الإستيطان، الأسرى، تهويد القدس.■