مدينة في رحم دولة، ودولة في رحم مدينة، هكذا صنفها المؤرخون والمحللون وهم يراقبون مخاضها تحت الرصاص والاجتياحات والبطولات، مدينة تتمدد لتصل إلى قلب تل أبيب وأبعد، خلف حاجز وسياج، تتجاوز الانتشار الكثيف للجنود والقناصة وأجهزة المراقبة والحواجز وقوات المستعربين، مدينة حاضرة وعائدة ومكتملة الولادة والتكوين. الآن اكتبوا عن جنين
مدينة أياديها متشابكة مع كل مدن فلسطين، من القدس حتى أعالي الجليل، عالمية الموت والحياة والحضور، عنيدة في شهر نيسان الفلسطيني، مدينة لا تمرض ولا تتلاشى ولا تموت، تؤسس وعياً جديداً في العقل والإرادة والعرس والجنازة، في الزراعة والصناعة وفي الصمود والسياسة والبيان والتبيين. اقرأوا جنين
على كل عتبة وحائط وشجرة ووردة وسحابة اسم شهيد وشهوة للحياة، اقرأوها ما استطعتم، صبحاً وعشية متكئين على حجر أو ساجدين في الصلاة، كل شيء في جنين، مكتملة الأركان إيماناً ومقاومة والأقرب بين الأرض والسماء، كل شيء في جنين، الأعشاب والرصاص والدخان والنبوءات والمفاجآت والبساطة والكبرياء، كل شيء في جنين، إن أردت أن ترى حيفا والبحر المتوسط وتستعيد خطواتك السابقات واللاحقات، قل أنا في جنين، أنا الماضي والحاضر، المكان والزمان، قف في ساحة مثلث الشهداء.
اقرأوا جنين
سيادة فوق ذلك الحطام، عكس المرحلة، لقد نمت الأيادي من تحت الركام، خرجت العيون المفقوءة، وطلعت الأرواح في فضاء النشيد، مدينة تشرب كل الغبار، تختنق بالصمت المحروق لتسقي الهواء وتدل البراري على طريق الحمام.
جنين تهاجم وتخرج من الملجأ والهامش، تحطم الخيمة والنكبة وعواطف الزمن الكسيح، تمنح البحر مرفأ، والأرض حبات القمح من الوريد إلى الشهيق، فكيف إذا السماء أرعدت دماً ما يكفي لصحوة في غموض الكلام. اقرأوا جنين
عودة بكل عدة الحضور، وطن غير قابل للاقتلاع، شعب موحد يستعصي على الإبادة، يعيد بناء جسده ويعيد بناء بيته ويقاتل، يرفع العلم ويرفع البندقية، وفي نيسان بلغت جنين سن الهجوم، أولاد الحجارة، أولاد السور الواقي والصواريخ والرصاص المصبوب والسجون، أولاد تنفسوا الموت من الاحتضار حتى الولادة وانبثاق الجمر من الرماد.
اقرأوا جنين
الماء والعطش والورد والرصاص والحصار والمجزرة، خذوا كل العناوين البارزة من جنين، أختام الموت على الجسد، أيتام على مائدة الإفطار في شهر رمضان، اغتيالات واقتحامات واعتقالات، تدمير للمنازل وتشريد للسكان، اصطياد الأطفال وقصف الآذان، قبور جماعية، دماء وجرحى، مطاردة الفلسطيني الحي والميت، جنين ظهرها إلى الحائط وعيونها إلى القدس، لا مجال للانسحاب، تتكدس الجثث، يحيا الحي مع الميت لا خيار سوى الدفاع عن خارطة وهوية جائعة.
اقرأوا جنين
مدينة على طاولة الأهداف الصهيونية، لقد أعلنت إسرائيل الحرب على جنين، عقوبات وتشديدات وانتشار واسع للجنود ووحدات القتل وكتائب الاغتيالات، ما هذه الدولة التي تعلن الحرب على مدينة؟ المحللون الإسرائيليون يقولون: هذه المدينة خرجت من ثقوب السياج ووصلت شوارعنا وبيوتنا، تحررت من قفصها المغلق وصدعت الجدار السياسي والجغرافي وأطلقت أفقها الوطني والتحرري في كل فلسطين التاريخية، جنين هي الرعب والقنبلة، فقدنا السيطرة، فشلت كل منظومتنا الاستخبارية، لنعزز جبهة الدعم النفسي، لنغلق الشبابيك ونعلن التسليح الشعبي، جنين وصلت إلينا، جنين أكثر من مدينة.
يقول جنرالات الحرب في إسرائيل: نيسان يلاحقنا بعد عشرين عاماً، كيف ينسى المخيم؟ الليل الثقيل والصفيح والجثث المتنائرة، القنابل والقصف والطائرات والأشلاء الممزقة تحت الأنقاض، أطفال ومعاقين ومشردين، نيسان تقفز عن السور الواقي، يجتاحنا صدى نكبتهم، يحاصر أساطيرنا وانتصاراتنا الزائفة.
اقرأوا جنين
ها هي تصل عمق المستعمرة، إن لم تأت من فوق الأرض فإنها تأتي من تحت الأرض، جنين حفرت نفقاً تحت سجن جلبوع المحصن ووصلت عرابة والسيلة ويعبد واليامون والمخيم، لم ينتصر الصياد على التنين، جنين تقبض الشمس بيمينها والحرية بيسارها، تتوضأ بالنار والتراب والماء، تحرك الشرايين الساخنة، جنين هي انتفاضة القدس واللد والرملة وعكا والناصرة.
اقرأوا جنين
مدينة ينبض فيها قلب وطن يواجه ميليشيات المستوطنين المسلحة، تدير الصراع بطريقة مختلفة، جنين ترسم صورة ديموغرافية أوسع وأوضح مما دفنته الجرافة الإسرائيلية ومعاول اليد التوراتية، تسلط الضوء على حياة الفلسطينيين ما بين البحر والنهر تحت الحكم العسكري الصهيوني، والأبارتهايد والفاشية والوحشية والعنصرية المتنامية، جنين تجمع بقاع فلسطين كلها وتثير الأسئلة، تعيد صورة الاحتلال إلى واقع الاحتلال وتدمر الصور التجميلية.
الآن اكتبوا عن جنين
مدينة الرصاص والورد والحياة والأمل، مصفوفة متتالية من الشهداء، كل شهيد يكتب حكايته على أرض حكايته ويصعد في الرواية والانفجار، وكل شهيد يعيد تدوير الأرض حول القلب نبضاً وعبادة في فلك المصير والقرار.