غزة / PNN / تقرير - هناء أسـامة أحمد. - كانت تجلسُ بعيدًا، تسند ظهرها على الحائط، تراقب بعينيها الصغيرتين مجموعة الفتيات اللواتي يصنعن أساور من خرز.. حين نظرتُ لها من بعيد شدّني الهدوء الذي في ملامح وجهها.. والجرح الذي عرفتُ من لونه أنها لا يزال حديثًا اقتربتُ منها ووقفتُ بجانب الحجر الذي تجلسُ عليه، اسندتُ ظهري على الجدار تمامًا كما تفعل، لم تنتبه لوجودي.. كانت غارقة في الصمت، قطعتُ ذلك الصمت حين سألتها عن اسمها.. رفعت رأسًا حائرة إلى الأعلى باتجاهي ونظرت لي.. ربما تساءلت: منذ متى تقفين هنا؟ لكنها قالت بصوتٍ منخفض: وعد.
"اسمك وعد؟" هزّت رأسها مؤكدة، ثم تابعت النظر أمامها، لم تكن تلك النظرة موجهة ناحية شيءٍ بالتحديد، كانت نظراتها عائمة، قلتُ لها أن اسمها جميلٌ.. وأنّ اسمي هناء.
لم تبدي أيّ تفاعل معي، جلستُ بجانبها، على ذات الحجر الذي تجلس عليه.. سألتها بصوتٍ متردد
"وعد لماذا لا تلعبين مع البنات؟" قالت غير مكترثة لكل ما يحدث أمامها: “ ما بدي ألعب”
أعرفُ وعد، وحكايتها الشهيرة.. وأعرفُ أنها لا تلعب منذ وصولها إلى هذا المخيّم، لكنّ شيئًا ما في تلك البنت دفعني للجلوس بجانبها، ربما حكاية الفقد التي عاشتها لحظةً بلحظة، أو ربما تمنحني القليل من الشجاعة لأوصل البحث عن أخي المفقود منذ عام.. أخبرتني والدتها أنها ومنذ خرجت من أسفل الركام وهي شخصية مختلفة تمامًا.. تقول لي: " تغيّرت وعد، لم تعد تلك البنت المليئة بالحيوية، والطاقة.. صارت متعبة، لا تسأل كثيرًا وتلح كالسابق.. تجلسُ وحدها باستمرار، تأكل أظافرها.. وفي الليل؟ كل الإيواء يستيقظ على صوتها وهي تنادي عناق".. هبط عليها حزنٌ ثقيل، بدا صوتها مجروحًا وهي تحكي لي تلك القصة التي تعيد حكايتها مجددًا، متظاهرةً بالانشغال في خبز الأرغفة على فرن الطينة.. تتلو المأساة على نفسها أولاً، تريد أن تحتفظ بنتف التفاصيل، تداري دموعها، وتمسح بكفيها المحمرتين وجهها الشاحب.. لم يكن لديها وقتٌ لتحزن، كانت تواصل النجاة فقط، تحاول تأمين أرغفة الخبز وبطانية للدفء، وتقف في طابورٍ طويل لتستلم " الكابونة " فيما تمرّ أمامها ذكريات البنت التي لا تزال تحت ركام بيت جدّها الذي صار كومة حجارة، تحاول تشتيت نفسها والعودة إلى الطابور الطويل..
سألتها من عناق؟ على من تنادي وعد وتصرخ طيلة الليل؟ قالت: " عناق أختها، بنتي الوسطانية، حبيبة قلبي، كانت معها أسفل الركام، عناق بطلة، استطاعت أن تنقذ أختها وعد"، قال لهم واحدٌ من رجال الدفاع المدني الذي ظلّ يحفر طيلة تلك المدة، أنّه لولا إشارات عناق ومحاولاتها الحثيثة لما نجحوا بإخراج وعد، وعد التي خرجت بعد ثلاثة أيامٍ ونصف من أسفل الركام "
الآن أكتب حكاية عناق ووعد، استعير لسان عناق الغائبة، أقول عنّها الشيء الذي ظلّ عالقًا في حنجرتها وغاب معها، واحدة من آلاف حكايات المفقودين الذين ظلّوا أسفل ركام البيت، ينتظرون أن تأخذهم يد العائلة ليغفو بسلامٍ في باطن هذه الأرض ولتضع عائلتهم نقطة النهاية عندما يحكون للآخرين الحكاية..
عناق 15 عامًا، أرادت تلك الليلة، أن تذهب إلى بيت جدها للنوم هناك، واللعب مع بنات عمها، بعد أن توسلتْ إلى أمها وافقت..
ذهبت هي ووعد إلى هناك، في الليل تستيقظ عناق على شيءٍ ثقيلٍ فوقها، تفتح عينيها، تظنّ أن عينيها لم تفتحان أو أنهما لا تعملان.. تحاول مدّ يدها لكن يدها تعلق في شيءٍ ما، ترفع جفنيها أعلى ما استطاعت لكنها لا ترى إلا العتمة.. لم تفهم شيئًا، كل ما كانت تذكره أنها في بيت جدّها، أول شيءٍ فعلته هو الصراخ، صارت تنادي بأعلى ما استطاعت.. لكن صوتها يعود إليها بلا أية إجابة، صوتٌ هائم في الهواء ولا أحد يردّ عليها.. تحاول تحريك نفسها لكنها بالفعل عالقة، والأشياء المتساقطة أثقل وأكبر من أن تفهمها عناق ذات الخمسة عشر عامًا، بحثتْ عن وعد، كانت وعد فوقها، يفصل بينهما عمود ربما.. لم تفهم كيف أنّ وعد التي كانت تنام لجانبها صارت معلقة فوقها، صارت تنادي على وعد، بصوتٍ متعب ويدٍ غير قادرة على إنقاذ نفسها، مدت يدها حتى لمست قدم وعد وهزّتها، حاولتْ مرة، واثنتين، وعشرة حتى بدأت وعد بتحريك قدمها ومن ثمّ البكاء.. كانت تتألم، تقول لي وعد:" مكنتش قادرة أتحرك، كان في وجع بخبط براسي، وجهي لازق بالرمل وحجارة كتيرةفوقي..
بعدها نمت".. مدة ثلاثة أيام ونصف، وعناق تحاول أن تصل إلى وعد.. تصحوان، تقول لها شيئًا ثم تعودان للنوم، في صباح اليوم الأول الذي صارتا فيه تحت الركام، سمعتا صوتًا من الأعلى، صوت رجال، أصوات غير مفهومة، صوت طرق.. صوت نداءات.. كانت وعد هي الأقرب لذلك الثقب الضئيل الذي يصل منه القليل من النور في هذه العتمة، والقليل من الحياة.. من خلال ذلك الثقب، سمعتا صوت الصباح، وعرفتا أن الشمس أشرقت، وأنّه لا يزال هناك أمل في إخراجهما.. وأنّ أمهما الآن تبكي، فيما تلتصق أجساد أخواتهن الأربعة ويبتهلن بالدعاء لله أن يخرجن.. تقول لي وعد: " لما سمعنا صوت ناس فوقنا، عرفنا أنهم بدوروا علينا.. حكتلي عناق صرخي، قد ما بتقدري نادي على بابا" ومن بعدها.. بدأت وعد بالصراخ بصوتٍ واهن، كانت عطشة، وهناك جرحٌ أحست به ينزف في وجهها، كان جلد قدمها مكشوطٌ بالكامل، وهناك ألمٌ لاسع في كل مكانٍ في جسدها.. لم تستطع في البداية أن تستجمع قوتها، قالت لأختها: " عطشانة ".. لكن عناق قالت لها أنه كلما صرختي بقوة أكبر، كلما خرجنا من هنا أسرع.. بدأت صراخات وعد وعناق تكبر، تزداد، تملأ الكون لكنّ لا أحد يسمعها، تحاولان طرق جدران السقف بالحجارة حولهما.. حاولت عناق إصدار كل الأصوات، طرقت، بكت، نادت بابا، قالت أنا هنا، لكن صوتها كان بعيدًا جدًا عن سماعه من الأعلى، استمر صوت الحفر، كان تحريك القطع الاسمنتية الكبيرة عبئًا ويأخذ وقتًا وجهدًا كبيرًا، وكان رجال الدفاع المدني لا يملكون الآلات ولا حتى العدد الكافي لفعل ذلك..كيف باستطاعتك إخراج الأجساد من أسفل ركام بيت.. في حين أنّ الجد والجدة، لا زالوا تحت الركام أيضًا.. فجأةً أظلم الثقب، لم يكن هناك أي نور يأتي من خلاله.. قالت وعد لعناق حينها: " الدنيا برا صارت عتمة" لكنّ عناق المرحة لم تنسى الضحك على جملة كهذه: قالت لها: مين أعتم جوا ولا برا؟ ثم أنهارت بالبكاء.. كان بكاؤها نشجيًا حزينًا، كانت متعبة وقد انقضى النهار كاملًا دون أن يجدهما أحد.. قالت عناق لوعد:" بكرا حنطلع، تخافيش!"
في صباح اليوم الثاني، استمر الطرق من الأعلى، وهذه المرة بات قريبًا، لأنّ الرمل بدأ يدخل إلى ذلك الثقب، ويملأ وجه وعد التي صارت تجهش ببكاء هستيري، خوف أن تدفنها تلك الرمال وهي لا تزال على قيد الحياة.. بدأ الرمل يدخل إلى فمهما وأنفها، وعينيها اللتان أغلقتهما بإحكام.. في تلك اللحظة بدأت عناق في تشجيعها، أخبرتها أنهما عندما تخرجان من هنا، سيذهبان إلى البحر، وستعلمها كيف تبني شكلًا من الأصداف، وعندما تعود المدرسة ستساعدها في موضوعات التعبير، وأنهما سترسمان أيضًا، صدّقت وعد تلك الوعود جميعها، قالت لها اصرخي إذا كنتِ قادرة على فعل ذلك، وبالفعل بدأت بالصراخ مجددًا.. نادت بابا، بابا، وعندما فقدت الأمل، جاء صوتٌ من بعيد: في صوت حد لسا عايش جاي من هان" صارتا تصرخان مجددًا، " عناق ووعد، عنــــاق ووعد".. استطاع الرجال تحديد موقعهما.. قالت وعد: " سألوني مين تحت؟" حكيت: عناق ووعد".. سمعتْ صوت أبيها من الأعلى يقول:"وعد تخافيش، حنطلعلكم، انتو بخير؟" قالت عناق لها: "قولي لبابا بخير، بس بسرعة طلعونا، الهوا قليل، وحاسة إني بنخنق، ومجروحة بفخدي وضهري فوقيه حجر كبير كتير".. أعادت وعد الكلمات لأبيها.. واستمرّ الحفر، وبدأت وعد تحفر بيديها الصغيرتين أيضًا، باتجاه النجاة.. أصرّت وعد أن تقاوم، أصرتّ أن يصبح ذلك الثقب الكبير فُرجة سماوية واسعة، يستطيعان النظر إلى السماءٍ من خلاله، أو أن تحصل الأختان على أجنحةٍ لتطيرا فوق ذلك البيت الذي صار كومةً وهما أسفله.. كانتا متعبتين في اليوم الثالث.. وكانت عناق لا تزال تصدر ذلك الطَرق الذي مع الوقت صار ضعيفًا لا تسمعه إلا أختها وعد.. كانت تمدّ يدها لتمسك بقدم شقيقتها وتهزها.
. تستجيب وعد لتلك الهزة وتقول لها أنا بخير، وأن الثقب يتسع أكثر فأكثر.. ربما شعرتا بأن الوقت يطول أكثر من اللازم وأنّ الأمل في حالتهما ضرب من الجنون، لكن ما حيلة اليائس من أن يستمر في البحث عن حياةٍ ما؟ هل كانت تعلم عناق أنها ستوصل شقيقتها إلى أبيها، ومن ثمّ لا تكمل المشوار معهما؟ هل كان يعلم أبيهما أنّ معجزة واحدة فقط تحدث في هذه الحياة؟ بعد ثلاثة أيامٍ ونصف، استطاعت يدٌ من الأعلى أن تمتدّ لوعد، تمسك أصابعها جيدًا.. تشدها بحزمٍ جعلها تتألم، صار رأسها فوق الأرض فيما لا يزال جسدها النحيل في الأسفل.. حين رأها والدها، بدأ في البكاء واحتضانها.. كان يردد بلا وعي كلمة: معجزة، معجزة.. صار يمسح الردم عن جفون الصغيرة ويزيل الحجارة من شعرها.. كانت بلا لون،شاحبة أو لونها يشبه لون الردم الذي خرجت من أسفله.. لم تكن بكامل وعيها، كانت تهذي عناق، عناق.. استطاعوا إخراجها، حملها والدها مسرعًا إلى المستشفى، فيما ينظر وراءه ينتظر خروج عناق.. قالوا له أنها ستخرج، وأنهم يلمحون أظافرها، لكن أحدًا لم يستطع أن يشرح لوالد الفتاتين كيف انهارت بعض الحجارة والركام وأغلقت جزءًا كبيرًا من الثقب الذي خرجت منه وعد.. وأنهم حاولوا ولا تزال المحاولة مستمرة.. لم يستطع الأب أن يقول شيئًا.. تهدّل كتفاه وشعر بإعياء شديد، ظلّ ينظر إلى الثقب الذي ابتلع ابنته.. لم يقل شيئًا، جلس على الركام، ينادي بصوتٍ منخفضٍ كأنه يُسمع نفسه: عناق، يا عناق..
وغابت عناق في الأسفل، واختفى صوتها إلى الأبد.