الشريط الاخباري

خطر الذكاء الاصطناعي وضرورة تحييده بقلم د. سنية الحسيني

نشر بتاريخ: 18-12-2025 | أفكار
News Main Image

طرح بيرني ساندرز السناتور الديمقراطي الأميركي المعروف، قضية تتعلق بخطر أثر الذكاء الاصطناعي على الولايات المتحدة، وذلك في كلمة له بُثت مؤخراً، ومن خلال مقال نُشر في الصحيفة البريطانية واسعة الانتشار The Guardian،  وكانت بعنوان: «الذكاء الاصطناعي يطرح تهديدات غير مسبوقة. على الكونغرس أن يتحرك الآن». يعد ذلك الموقف لـساندرز نقطة انطلاق مهمة لطرح خطر انتشار ظاهرة الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك من خلال «تشات جي بي تي»، بشكله المدني الشعبي، أو من خلال «بالانتير»، بشكله الأمني السيادي، لمجتمعات العالم الأخرى، لما يعود ذلك بآثار أشد خطورة عليهم.

تنبأ ساندرز في مقاله الذي نُشر في الثاني من الشهر الجاري بأن الذكاء الاصطناعي والروبوتات سيحوّل العالم جذريًا، وسيُحدث تغييرات لا يمكن تخيّلها. وأعرب عن قلقه من أن يحلّ الذكاء الاصطناعي محل البشر في التحكم بكوكب الأرض في المستقبل غير البعيد، متخوفاً من تجاهل طرح ذلك الموضوع رغم خطورته وتطور تهديداته بسرعة هائلة. دخل ساندرز في تفاصيل تأثير الذكاء الاصطناعي على البشر، معتبراً أن كل اتصال نجريه، وكل بريد إلكتروني نرسله، وكل بحث نقوم به، متاح لمالكي أنظمة الذكاء الاصطناعي. وحذر من تأثير الذكاء الاصطناعي في الحروب والعلاقات الإنسانية.

تشير تقارير متخصصة إلى تحكم 5 شركات كبرى (Google, Meta, Amazon, Microsoft, OpenAI)  في 80–90٪ من الموارد البحثية والبُنى التحتية للذكاء الاصطناعي. ويتحكم بذلك عدد قليل من أغنى أغنياء العالم مثل إيلون ماسك، جيف بيزوس، بيل غيتس، مارك زوكربيرغ، بيتر ثيل، وآخرون في استثمارات تُقدّر بمئات مليارات الدولارات في تطوير الذكاء الاصطناعي والروبوتات، ويحددون مستقبل البشرية دون أي رقابة على ذلك. 

قال ماسك مؤخرًا إن الذكاء الاصطناعي والروبوتات سيستبدلان جميع الوظائف، كما حذر داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة Anthropic،  من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان نصف الوظائف المكتبية للمبتدئين. كما يذهب آخرون لأبعد من ذلك، فتوقع لاري إليسون، ثاني أغنى شخص في العالم، قيام دولة مراقبة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

يدعم دونالد ترامب بقوة أثرياء شركات التكنولوجيا الكبرى، فألغى أمر تنفيذي أصدره الرئيس السابق جو بايدن يتعلق بتنظيم الذكاء الاصطناعي، وبدله بآخر يهدف لإزالة ما وصفه بـ "عوائق أمام الابتكار"، ويدعم تقليل القيود على تلك الشركات، لرفع قدراتها التنافسية العالمية، وفرض أمر تنفيذي يمنع الولايات من تنظيم الذكاء الاصطناعي. كما يهاجم بيتر ثيل، المستثمر والملياردير والمؤسس المشارك لشركة بالانتير، كل من يدعو لتنظيم الذكاء الاصطناعي. ويدعو ساندرز لضرورة تنظيم الولايات المتحدة لعمل شركات الذكاء الاصطناعي، وضبط أدائها وتطور عملها بالقانون، وسن التشريعات، وفرض الرقابة.

اليوم يأتي الذكاء الاصطناعي، والقلق من سيطرة حكومة مركزية على العالم، من خلال تحكمها بالمعلومات، من قبل مجموعة محدودة من الأفراد، والذي يثيره العديدون ومنهم ساندرز، وما طرحه مؤخراً. يبدو خطر انتشار وسيطرة الذكاء الاصطناعي مضاعفاً على شعوب ودول العالم الأخرى، خصوصا عندما نعلم أن الذكاء الاصطناعي بشقية المدني الشعبي "تشات جي بي تي" والأمني السيادي "بالإنتر" أميركي المنشأ، وقد يكون أيديولوجي التوجه، وإستراتيجي الهدف.  

توجه الانتقادات لشركات الذكاء الاصطناعي بتمركز المعلومات، وبالتالي السلطة بيد مالكي تلك الأنظمة. يأتي ذلك في ظل انعدام الشفافية، وعدم اتضاح آليات العمل أو منطقها أو توجهاتها، وعدم وضوح آليات اتخاذ القرار في مثل تلك الشركات. كما يحدث ذلك في إطار من السرية تحيط بتفاصيل العقود والمعاهدات بين تلك الشركات، والدول، وحدودها، ومجالاتها. ويتركز الجانب الخطير في أن مخرجات عمل مثل تلك الشركات تتمركز بيد مجموعة من الحكومات أو جهات محددة، قد تستخدم في الحروب والسيطرة الأمنية. ويفتح ذلك المجال تدريجياً لانتقال القرار من الدول إلى السلطة المركزية الشمولية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

يُعتبر «تشات جي بي تي» برنامج ذكاء اصطناعي، دخل للاستخدام اليومي عام 2022، طوّرته شركة تُدعى OpenAI ، وهي شركة أبحاث وتطوير ذكاء اصطناعي، تأسست عام 2015 في سان فرانسيسكو، بدأت غير ربحية، ثم أنشأت فرعاً ربحياً لجذب الاستثمارات. ودخلت Microsoft  كأحد أكبر المستثمرين في OpenAI ، ووفرت استثمارات كبيرة وبنية سحابية، لتخزين المعلومات عبر الانترنت، لتساعد في تشغيل نماذج «تشات جي بي تي» الضخمة.

يعتبر سام ألتمان أحد المؤسسين الرئيسيين لـ «تشات جي بي تي» وشركة OpenAI ، ورئيسها التنفيذي، وهو يهودي أميركي، يركز على قضية معاداة السامية، ويعتبرها مشكلة حقيقية في الولايات المتحدة. وشارك ألتمان في فعاليات في تل أبيب، وتحدث عن دور إسرائيل في مستقبل الذكاء الاصطناعي. 

كما يعتبر إيليا سوتسكيفر، عالم الذكاء الاصطناعي، شريكاً مؤسساً في OpenAI ، ويحمل الجنسية الإسرائيلية والكندية، وعاش في إسرائيل في سنواته الأولى قبل أن ينتقل إلى كندا. ورغم أن إيلون ماسك كان من المؤسسين الأوائل لـ  OpenAI  إلا أنه انسحب منها بعد ذلك، ورفع دعاوى قانونية بعد أن تحولت للربح.

صُممت «بالانتير»، التي تأسست في العام 2003، كشركة تحليل بيانات لمواجهة التحديات الأمنية بعد أحداث 11 سبتمبر، للتعامل مع مجموعات البيانات الضخمة والحساسة، من النوع الذي تستخدمه وكالات الدفاع والاستخبارات وأجهزة إنفاذ القانون والأنظمة الصحية والشركات الكبرى. وتقوم الشركة بجمع البيانات من مصادر مُتعددة، ثم تنقّحها وتفلترها وتربط فيما بينها. وأبرمت جهات حكومية عديدة وحساسة اتفاقيات وعقوداً مع «بالانتير»، ورغم ذلك لا يوجد مصدر متاح للجمهور يقدم قائمة كاملة حول تلك الجهات.

دخلت «بالانتير» في شراكات استراتيجية مع إسرائيل لتقديم تقنيات تحليل البيانات والنظم الذكية التي تستعملها أجهزة عسكرية وأمنية إسرائيلية خلال الصراع القائم. في 2024، عقدت «بالانتير» اجتماع مجلس ادارتها في تل أبيب، كدليل على التضامن. وتشير تقارير إلى أن الشركة زودت إسرائيل بأدوات تقنيّة أثناء الحرب على غزة. وقام مستثمرون عالميون بالفعل ببيع أسهمهم في «بالانتير» احتجاجاً على علاقات الشركة مع إسرائيل، ومخاوف استخدام تكنولوجيا الشركة خلال الحرب في غزة وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عموماً.

يعد أليكس كارب الرئيس التنفيذي الحالي لـ «ـبالانتير»، ويحتل هذا المنصب منذ نشأتها في العام ٢٠٠٣، وهو من مؤسسيها الرئيسيين. كارب يهودي، ويصف نفسه بأنه علماني متأثر أخلاقيًا وفكريًا بالتراث اليهودي. ويرى اليهودية كتجربة تاريخية وإطار أخلاقي تشكّل تحت الاضطهاد والتهديد الوجودي، يستخدم خطاب “الذاكرة التاريخية لليهود” لتبرير أهمية القوة والحماية. ويعتبر كارب مؤيداً لحق إسرائيل في الوجود والدفاع عن نفسها، ويصنف إسرائيل من بين الديمقراطيات الليبرالية المهدَّدة. ويعمل مع إسرائيل، ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، ويصرح علناً بدعمه لها، ويرصد جزءاً من مكاسب الشركة لها. ويؤمن بأهمية التكنولوجيا كأداة سياسية، وأن الذكاء الاصطناعي غير محايد، ويجب أن يُستخدم لحماية الحكومات.  

ويترأس شريكه المؤسس بيتر ثيل مجلس الإدارة، ويعد الداعم المالي الأول لشركة بالانتير، وكان من المستثمرين المهمين لشركات مثل الفيس بوك. وُلد ثيل في ألمانيا ونشأ في الولايات المتحدة، وأعلن عن كونه مسيحيًا. تلقى تعليمه في الفلسفة والقانون، والتقى مع شريكه كارب في جامعة ستانفورد، أثناء دراسة الرجلين للقانون فيها، حيث تشاركا الأفكار والاهتمام، بالفلسفة والقانون، والعلاقة بألمانيا.

يبدي ثيل اهتماماً فكرياً بالتوراة أو العهد القديم ضمن قراءاته للمسيحية. وينحاز لإسرائيل في النزاعات الإقليمية، ويؤكد على حقها في الدفاع عن النفس. وفي حين يتجنب انتقاد سياسة إسرائيل العسكرية، يستنكر ويرفض أي هجمات ضدها، معتبراً ذلك تهديداً أمنياً.

يستخدم ثيل في خطاباته مصطلحات دينية خطيرة، ويربطها بمنظومة حياتية معاصرة، مستوحياً أفكاره من رينيه جيرار واللاهوت المسيحي. يستخدم ثيل مصطلح (المسيح الدجال)، في إطار حديثه عن قوة أو نظام عالمي يعد بالسلام وإنهاء الصراع، وذلك عبر نزع الحرية والمركزية بالسيطرة التقنية، والتي تتحقق من خلال الذكاء الاصطناعي. ورغم أن لدى بيتر ثيل فهماً نقدياً لما يُمكن أن تُمثّله السلطة المركزية الشمولية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهي الصورة التي يستخدم فيها لغة دينية رمزية مثل المسيح الدجال، إلا أن ما يتخوف منه يتفق مع مهام شركته «بالانتير»، التي تُستخدم تقنياتها لتحقيق السيطرة على المعلومات وتمركزها في يد قلة من الناس. وتتهم «بالانتير» بذلك، تماماً كما تتهم شركات الذكاء الاصطناعي الأخرى. ولم تخرج كلمة ساندرز ومقاله في صحيفة الجارديان عن إطار خطر انتشار تأثير الذكاء الاصطناعي على البشرية، من منطلق قناعات أيديولوجية.

وفق أفكار جيرار، التي يؤمن بها ثيل أن خوف المجتمعات من العنف تفرض عليها البحث عن حل شامل، أو عدو، فيتم القبول بالتضحية بهذا العدو، حتى وإن كان مظلوماً، أو بصنع نظام جديد موحد باسم السلام، حتى وإن كان ذلك يعني تضحية العالم بحريته. وتتضح الجزئية الخاصة بالتضحية بعدو، حتى وإن كان مظلوماً، في أحداث 11 سبتمبر، التي خلقت عدواً جديداً في الشرق الأوسط، وشنت في إطار تلك الفكرة الحرب على العراق وأفغانستان. وأقرت الولايات المتحدة بأن شن حربها على العراق، والذي جاء بسبب امتلاكها لأسلحة دمار شامل، لم يكن مبرراً، واعتمد على معلومات غير صحيحة. يأتي ذلك في ظل سياسة خارجية أميركية، كانت تبحث عن عدو، لحشد الأمة، وتبرير عمليات تطوير وتمويل أدوات الدفاع والحرب والأمن، بعد زوال تهديد الاتحاد السوفيتي.  

في الحالتين، تعد الجهة المنشئة هي الولايات المتحدة الأميركية، مع اختلاف في طبيعة العلاقة مع الدولة الأميركية. تأسست «تشات جي بي تي» في الولايات المتحدة من خلال شركة OpenAI  في العام 2015، وبدأت كمؤسسة غير ربحية في ذات العام، ثم أنشأت كياناً ربحياً محدود العائد في العام 2019. وتعمل اليوم كشركة أميركية خاصة ذات “منفعة عامة”، بشراكة استراتيجية مع Microsoft ، وهي شركة أميركية كبرى تعمل مع الحكومة الأميركية.

ونشأت شركة بالانتير أميركياً أيضاً في العام 2003، وترتبط منذ تأسيسها بصندوق رأس المال الاستثماري التابع للاستخبارات الأميركية، وتأسست في الأساس لتلبية حاجة استخباراتية محددة. ورغم ذلك بدأت «بالانتير» عند التأسيس كشركة خاصة، ثم تحولت لشركة مساهمة عامة في العام 2020، وهي مملوكة لمساهمين وليس للدولة، ولا تتبع إدارياً لأي وزارة أو وكالة حكومية.

ومن المعروف في الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى تكلف الحكومات شركات خاصة بوظائف سيادية، تضمن تخفيف المساءلة عن مؤسساتها الرسمية وتوفر أيضاً لتلك المؤسسات الرسمية العمل بحرية بعيداً عن القيود الدستورية والمراقبة، وتمكنها كذلك من تصدير التقنيات، خصوصاً الحساسة منها، للحلفاء، دون تحمل مسؤولية رسمية أمام العالم.

يظهر مما تقدم خطورة الذكاء الاصطناعي خصوصاً على العالم غير الغربي، الذي تختلف أهدافه وطموحاته وأيدلوجياته مع الرؤية والأيديولوجيا الأميركية المتوارثة. وقد يكون ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، داخل أرضه المحتلة، مثالاً حياً مصغراً، للسيطرة العالمية المركزية على العالم، من خلال السيطرة على المعلومات، ومن خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، بشقية المدني والعسكري، الذي تستفيد جهات معينه فقط من مخزونه المعلوماتي..

 تسيطر سلطات الاحتلال على كل كبيرة وصغيرة تتعلق بالمواطن الفلسطيني، فقرار اغتياله، وتحديد مكانه، وتوقيف حساباته البنكية، وأي معاملات رسمية، ومنعه من السفر والعلاج، بفعل تلك السيطرة، فالإنسان يعيش في فلسطين في سجن حقيقي، جدرانه إلكترونية ورصاصاته غير مرئية، وكلها قاتلة. لا بد من التحرك الفوري للدول لوقف توغل هذا الوحش المدمر، من خلال فرض القيود القانونية والرقابية الداخلية والإقليمية، وحتى الدولية، لوقف تمدده وتغوله، وأية مخططات تدميرية قادمة.

 

شارك هذا الخبر!